حمل فلسطين في روحه كجنين معاق
حوار: علي عبد السادة
الشعر لديه جولات تمرد. لا يبالي كثيرا في نتائجها؛ المهم لديه الانتفاض على كل يقين ناجز، وكل موروث مستكين، حالة الشعر التي يصفها البعض بالأزمة، والتراجع لصالح الرواية والموت، يرجعها هو الى النوم في الماضي، والاشتغال على تكريسه.
وفي كل مرة يخوض فيها مغامرة مع القصيدة يعلن حربه على القيود: اللغة، السلطة، عين الرقيب، لكنه وفي طريق الظفر بامتلاك الذات، ينفي الحاجة للنظر في هشيم القيود، ولا يقيم وزنا لثقل الكثير منها، لذلك قادته فعلته في اللغة والسلطة الى دائرة الاتهام، بل في اقبية السجون.
شاعرنا هو موسى حوامدة، وهو من مواليد فلسطين 1959درس الثانوية في مدينة الخليل واعتقل اكثر من مرة عندما كان طالبا فيها، التحق بالجامعة الأردنية للدراسة في كلية الآداب واعتقل في السنة الثانية وسجن في زنزانة منفردة لمدة ثلاثة اشهر وفصل من الجامعة لمدة عام واحد ثم عاد وتخرج من قسم اللغة العربية عام 1982.
بدا نشر قصائده في ملحق الدستور الثقافي بداية الثمانينات حينما كان طالبا ونشر أول مجموعة شعرية بعنوان " شغب" (عام 1988في عمان)، منع من السفر والعمل حتى التحق بالعمل في صحيفة صوت الشعب ثم الدستور ثم عمل مديرا لتحرير "العرب اليوم"..يعمل حاليا محررا ثقافيا وكاتبا في جريدة الدستور.
نشر في عام 1998مجموعته الشعرية الثانية "تزدادين سماء وبساتين" وهي قصائد حب مكتوبة في أواخر الثمانينات، بعد ذلك اصدر مجموعته الشعرية الثالثة "شجري أعلى" (1999 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت) والتي جلبت عليه سخط المتطرفين الذين أهدروا دمه ثم صودر الديوان من قبل وزارة الإعلام الأردنية في شهر آذار 2000 وقدم للمحكمة الشرعية في شهر ايار من نفس العام وحوكم أمام المحاكم الشرعية خمس مرات.
ولما فرغت المحاكم الشرعية أواخر عام 2001 من القضية رفعت وزارة الإعلام الأردنية ممثلة بدائرة المطبوعات والنشر قضية جديدة ضده في محكمة جزاء عمان، وفي نهاية شهر تموز عام 2002 أصدرت المحكمة براءته من تهمة تحقير الأديان ومخالفة قانون المطبوعات، غير ان النائب العام استانف الحكم ضده وأعيدت محاكمته حتى حكم بالحبس لمدة خمسة أشهر لم تنفذ لغاية اليوم.
خيال وتأويل
النص الذي يكتبه موسى حوامدة مهموم بـ "الوجدان". وبه تُفتح القصيدة على مخيلة وألوان ومساحات واسعة من الإيماء والتأويل. وربما هو كذلك لأن الشاعر يطوع اللغة باداة "الوجدان" لا بغيرها.
فهل يعتبر حوامده الشعر الكائن بفعل الوعي، العقل، محددا لاستثمار اللغة وتطويعها؟:
يقول موسى:"إذا كانت المخيلة هي البحر أو البحيرة التي يغرف منها الشاعر، فإن اللغة هي الغيمة التي تلاعبها رياح القصيدة، كلما تقدم الشاعر في التجربة، وتمكن من منابع اللغة، وتملك بعض أسرارها ومقاليدها، تطوعت بين يديه بكل بهائها وفضائها، ومنحته ماء الكتابة وطين اللغة التي لا تحتاج إلا إلى صفحة بيضاء كي تغدق خضرتها وجمالها عليها، وكلما استعصت اللغة على الشاعر ماتت قصيدته، وانطفأت ذبالة المخيلة لديه، وغاب التأويل، بل تقلصت عضلات التعبير ووهنت الأصابع والأطراف، وأصابت العظام الهشاشة والضعف.
ليست الوصفة جاهزة تماما، وليست الفضيلة الشعرية تتلخص فقط بامتلاك المخيلة والقدرة على تمريغ أنف اللغة في وحل التشطير، وحقل التجريب والتخبط والافتعال، هناك روح خفية وسر مستعص ليس من السهل التحدث عنه او امتلاكه بشكل يسير، يمنح الشعر بلادا لم تفتح بعد، ويعمر ممالك لم تسكن، ويقوض مدائن عامرة ليقيم منها حياة جديدة، وفضاءات غير مرتادة.
كل هذا اللعب هو جد، بل في منتهى الجدية، وهو العامل الأول والأهم في تطوير اللغة، وفتح مغاليقها وكشف حجابها، وليس هناك من لغة حية متطورة بدون شعر حي ومتجدد، أما لغة التكنولوجيا وحدها فليست قادرة على التطور، وأما لغة الدين وحدها فليست نجاة الإبحار وسط الأنواء، وحتى اللغة التي تُكتب فيها الدراسات والمقالات والروايات مهما كانت ناجحة، فهي عاقر بدون شعراء يهزون إلية اللغة، ويبذرون قمح التغيير، ويقدرون على امتطاء صهوتها، وتحريك إردافها ومشاعرها وكنوزها وفق مشيئتهم وخيالهم المجنح".
صراع مع اللغة
"سلالتي الريح وعنواني المطر" القصيدة الفائزة بجائزة "لا بلوم" الفرنسية امتازت بخصال لغوية متعددة؛ وازعم ان من اهمها محاولة التحرر من اللغة نفسها، فاستثمار المفردات الناجع والتقشف في استدراجها للقصيدة وتوليد معان وتأويلات مغايرة يفصح عن شاعر تؤرقه اللغة وقيودها. ودون شك ليس هذا حسب "سلالتي الريح" بل هو حسبُ منجز حوامده في الشعر والنثر.
وهنا لابد من السؤال عما يجده حوامدة في ذاته الشعرية في كل مرة يصارع اللغة ويرواغ قيودها.
فيجيب موسى:"ما زلت فوق الحلبة تماما، قرصُ الشمس في كبد السماء، عيون المراقبين حول حبال الحلبة، والصراع لا زال على أشده، ربما تمكنت من تسجيل بعض النقاط كما تقول، أو فشلت في بعض الجولات، ولكني ميممٌ جبال الأولمب، ولست ممن يعجب بنفسه، ويفتخر بصعود التلال، أو يكره التعود والوقوع في الحفر، والعيش في القيعان، فالأفكار التي ورثناها من أجدادنا وآبائنا الشعريين باتت مترهلة، تشكو من كثرة تحميلنا لها كبحر الرجز، الذي أطلق عليه التراثيون حمار الشعر، الحكمة ليست في التشبه بالسلف، او الانطراب لمنجز الأجداد، بل في الانتفاض على كل يقين ناجز، وكل موروث مستكين، وما حالة الشعر التي يصفها البعض بالأزمة، والتراجع لصالح الرواية والموت أو التبلد للشعر، إلا بسبب النوم في الماضي، والاشتغال على تكريسه، والتحسيس على قوامه الفضفاض، وعجيزته الهرمة، بدل الاشتغال على تطوير الحياة نفسها، وتطويع التراث لليومي وعدم امتداح الخرافة، إلا إذا تحولت إلى أنثى تتمرآى للناظر، وصارت عروسا حية، تسعى على قدمين اثنتين، وهي تلبس أحلى وأجمل زينتها، وهنا المعضلة، فنحن نسعى لاستخراج العسل من الدبابير والخِراف، ومن تذويب القشدة والمربى، وننسى أن النحل مصدر العسل الوحيد.
خرجت عن سياق السؤال، لكنه خروج ضروري، فلا بد لكل منجز من تخريب، ولكل معمار من هدم، ولكل موروث من هزيمة، ولكل جديد من معركة وانتصار، وإلا بقينا نخوض حرب اليوم بأسلحة أبي زيد الهلالي ورماح عنترة بن شداد، وكأننا لسنا أبناء الحداثة التي نستعملها في حياتنا اليومية، ونستنكر على الشعر أن يفكر بها، أو يجربها ويعيشها، نريد من الشعراء أن يلبسوا عمائم الماضي، ويسبحوا بحمد فحول الشعر القدماء، ويؤيدوا طبقات ابن سلام الجمحي، ويمتدحوا جنون رامبو، واستشهاد لوركا دون أن يفكروا هم أنفسهم بمواكبة العصر، وصناعة تجاربهم وبطولاتهم وخيباتهم، ودون استهداف تطوير اللغة بالصراع معها، ومغالبتها، وفتح آفاق للكتابة فيها، والإبحار في لججها وغموضها، واستخراج المكنوزات والجواهر من أعماقها، إن الاكتفاء بالعيش على السطح، لا يعني البقاء عرضة للأعاصير وحتى النسمات فقط، ولكنه لا يوفر أساسا صلبا للبقاء والمواجهة وحتى الاسترخاء بطريقة طبيعية، والتمرد بقدمين ثابتتين، بل يجعل المرء عرضة للتلون مع حركة الهواء، واتجاهات التنظير النقدي السطحية".
ومع محاولاته العديد في تذليل تلك القيود، غير انه لا يستسهل الامر مثلما يشعر بمتعة تهشيم اي قيد، ويقول:
"القيود لن تنتهي، فهي من الكثرة بحيث يستحيل بين ليلة وعشيتها هزيمتها او تجاوزها، لكنني لا أفكر في العدد ولا أجمع أسراب القطا في ماراثون سماوي، إنني ماض أقود قطيع الغيوم، أنثر حَبَّ المطر في أرض عطشى، لا أبتغي شكرا ولا أرتجي سبقا، لكني وفيٌ لجنون نطفتي الأصلية، ومغامرة قصيدتي الأولى، وفي طريق الظفر بامتلاك الذات قبل المعركة، لا أحتاج للنظر في هشيم القيود، ولا أقيم وزنا لثقل الكثير منها، والتفافها حول رقبتي وروحي كحبل المشيمة الحديدي، أمضي وغايتي أبعد من تكسير حديد الواقع وجليد الكلمات، وفي قيامة العاصفة لا يكون الرعد معنيا باضطراب النوافذ وبيوت الصفيح، لكني فرح كلما تهشم قيد، وانزاحت مشنقة، وتقطعت حبال، وتكسرت قضبان سجون وتهدمت زنازين، فالحرية لا تكون في النوايا وحدها، بل في القصائد والحياة بغطرستها وجبروتها وغرورها اللا محدود".
لوثة الأسئلة الوجودية
ازعم ان الشاعر في"سلالتي الريح وعنواني المطر" متورط بشان الوجود ولوثة أسئلته، بينما في "أسفار موسى .. العهد الأخير" يحاول مجادلة ذاته الفلسطينية ويحاور "الوطن" بالاحتجاج والسخرية.
ورغم ان هوية حوامدة الشعرية هي ذاتها في اغلب اعماله، لكن سؤالا يطرح نفسه في هذا الشأن: اين يجد نفسه..متعة الأسئلة الوجودية وإسقاطها على تفاصيل يومية معاشة، ام في متاهة البحث عن فلسطين؟
وهنا يجيب موسى:"لم تعد فلسطين تسيطر علي كقضية وكوطن، ربما حملتها في روحي كجنين معاق لا يريد الولادة، لكني وقد فهمت الكارثة وعرفت بواطنها واسرارها وعجزت عن تحريك حجر واحد في بناء نافذة حريتها، بت ميالا أكثر للتفكير في الوجود نفسه، أكثر من البحث عن التفاصيل في وطن مصلوب يكرر مأساته يوميا وأمام مليارات البشر وهم عاجزون جميعا عن قول الحقيقة، لأنهم مكبلون بغلالة الخوف من شيء ما، وإن كانت القضية بسيطة وسهلة، رغم صعوبة العقدة المرئية، لكن الكون لا يقدم قرابين حيوانية دائما، فهناك قرابين بشرية تطلبها آلهة الشر أحيانا، ويبدو أن مزاج التاريخ ورغبة الطبيعة الآنية أن تكون فلسطين قربان البشرية وخلاصها، وإن كان المسيح ابن فلسطين قد أفتدى نفسه يتخليص البشرية من ذنوبها وآثامها، فإن فلسطين هي مخلص البشرية المعاصرة بشكل آخر، لكن هذا لا يمنعني من العودة لجذر البشرية نفسها، ولتطور الحياة ذاته، والنظر في فكرة الخلق، وسر الوجود، ومغزى الولادة نفسها.
وإن كان هناك ضرورة للبشرية نفسها، فما جدوى الانزياح وراء القومية والقطرية والوطنية والمذهبية، والتمايز بين البشر، ما دام الأقربون عاجزين عن مساعدة الشمس لكي تشرق على بلاد الظلم، ينبغي هنا التوقف مليا للنظر فيما وراء الشخصي، والتطلع للكون بأسره، والاعتراف أن ملاك الموت ليس مسلما، وليست وظيفته في نزع أرواح المسلمين فقط، فقد تبين انه يقوم بمهمته دون النظر للعرق واللون والدين فلماذا الخلاف حول طريقة دخول الحمام، وجماع المرأة، بينما الموت أكثر عدلا من كل الوعاظ ورجال الدين والأدعياء والثوريين.
الحوار لا ينقطع بين الشجرة وطينتها، وإلا لما عاد هناك فرق بين الخضرة والوحل، أليس من حقي ان أتخيل الوجود برمته، والكون بعلاته أم هل عقوبتي ان أظل سجين فلسطين، وقتيلها إلى الأبد، لعلي أرغب في سجن أكثر بطشا وجلادين أصعب مراسا، وقتلة من كل نوع وليسوا إسرائيليين فقط. إنني أبحث عن تكثير أعدائي، كما يفعل تاجر الماشية لتكثير خرافه، فلم أعد مطمئنا لوجود عدو واحد، وطموحي ان أرى المزيد من الأعداء والعداوات والمظالم، لست عنصريا فيما يتعلق بالظلم والاضطهاد، فالمزيد منه يسعدني ويريحني اكثر، ويعطيني مبررا لقصيدتي وكتابتي وحتى وجودي نفسه".
لكن في قصيدته "فلسطينيون" المنتمية الى مجموعة "أسفار موسى.." يخيل للمتلقي ان القصيدة يائسة من همها: فلسطين، الأرض، الاحتلال. هل فقد حوامدة الأمل في أدب يفعل فعلته في الشأن العام، خصوصا في شان فلسطين؟
يقول حوامدة: "القاتل بحاجة إلى مبررات أكثر، والمستعمر كما قال ادوار سعيد يحتاج لذرائع وحجج، لكن القتيل لا يحتاج لأدب او مبررات فهو مقتول وميت، وحتى لو نطق وقال وكتب وأنشد وغنى فلا نفع في حجج من مهزوم أو متوفى، لذا لا أرى ان الأدب يحرك ساكنا في شأن فلسطين، او رفع الظلم عنها ربما يزيد حجم الدموع، قد يخدر بعض الألم، لكنه أعجز من تحقيق حلم او الظفر بنتيجة، فالأدب للمنتصر وللقاتل ضروري، وهو نوع من الاحتفال بتحقيق حلم، وإقامة عرس او حفلة ميلاد، وليس مستحبا ان تقام الأعراس بدون موسيقى ورقص واحتفالات، لكن المهزوم ليس بحاجة إلى اوركسترا ولا قصائد تخبره بهزيمته الساحقة فهو يعرف ويدرك ذلك، وكل قول يريد ان يعرفه على حقه فاسد، وكل محاولة لتأريخ أدبه مسكينة ومكسورة، قد تكون جيدة لكنها لا تفيده شخصيا، وإن كانت تؤرخ لحقبة إلا أنها لا ترفع شعبا من قاع المهانة والهوان".
حرب ضد القيود
اغلب من كتَبَ عن الشاعر حوامدة يجمع على رغبة جامحة تؤرقه في التحرر من كل اشكال القيود، وكانت تلك الاشارات تستهدف اللغة ودلالاتها. فما قول الشاعر في قيود السلطة – ايا كان لونها واسمها ودورها في التقييد – هل يحتسب مواجهة المؤسسات التي تراقب القصيدة بعين تستبق الريبة قبل الشعر؟ هذا ونحن نتحدث عن شاعر يكرس نفسه لتحطيم التابوات.
يجيب موسى:"كل شاعر لا يفكر بتحطيم التابوهات حمولة زائدة على الشعر، وكل قصيدة لا تحمل رؤيا تغيير لا قيمة لها، وكل أمة لا تقدم شعراءها كقرابين لحريتها، ليست نافعة للدوام، ولا قادرة على المضي للمستقبل والبقاء في الوجود، وحين تحدث أدونيس عن انقراض العرب، ظن كثيرون انه يعني الانقراض البيولوجي، أنا فهمت المسألة بشكل آخر، فهمت أن الانقراض هو التوقف عن تقديم القرابين، والخوف من تحطيم التابوهات، وتكسير القيود، والسكوت والخوف من التعبير، والعجز عن كتابة الشعر".
لكن موسى قال ذات مرة – وكانت قناة العربية تجري حوارا معه – ان مطاردته من البعض بتهمة الردة ووقوفه أمام ثماني محاكمات طوال أربع سنوات بسبب قصيدة "يوسف" في ديوانه الشعري "شجري أعلى" جعلته الآن أكثر عمقا وحذرا واحتياطا في اختيار الكلمات. فهل يفسر هذا القول على انه تراجع عن سمته في مقارعة القيود؟ وهل يوافق، أصلا، على محاكمة الشعر من قبل المؤسسات الدينية والسياسية والاجتماعية؟
يرد موسى ليفك الالتباس:"ليحاكموا ما شاؤوا، هذا ديدنهم وتدينهم، وهذه سلطتهم، يريدون الدفاع عن مكتسباتهم ومنافعهم، لكني لم أتراجع، لا أقول ذلك لمجرد النفي او الدفاع عن النفس، ولو كنت تراجعت لقلت لك ببساطة وبدون عذر، فالحقيقة لا تحتاج لمحامين او مبررات، لكن رغبتي الداخلية ان أنقض على كل قمع وقهر وجبن، واكسر كل قيد وحاجز، وأحطم عمائم اليقين، لكني املك قلبا هشا يشفق حتى على هؤلاء المساكين، في الوقت الذي لا أريد أن يكمموا فمي ويخنقوا قصيدتي، وقد استطعت ان احمي روحي من كل تراجع، وإحباط، أعلمك أنهم كثيرون، وقادرون، ولكني لا أريد أن أُهزم في هذه النقطة بالتحديد، ربما هزمت سياسيا هناك، هزمت اجتماعيا هنا، هزمت في الكثير من المعارك، ولكن في هذه القضية لست متحمسا للتفريط بحقي بالمواجهة، وهي من حسن الحظ ليست مواجهة تقليدية، لذلك فالمؤسسات خاسرة لأنها كثرة بلا روح، وعندي روح واحدة قوية ومصممة على البقاء، وإن كنت واحدا، لكن الخسارة، والربح في الداخل، وداخلي معي، ما زال ملكي وطائعي، ولا أريد له الهزيمة".
ورغم ذلك فان المحاكمات لم تعد تعني شيئا لموسى حوامدة، اذ يقول:"ما يشغلني ليس ما يشغلهم، وما يجتاحني لا يعنيهم، هنا النار والثلج وليس لديهم إلا الدخان، فليتابعوا ما ليس يعنيني".
قصيدة النثر إلى أين؟
ومع جولات موسى حوامدة في الشعر العربي الحديث، كيف يراه والى أي مدى وصلت قصيدة النثر، هل تمكنت من تلبية حاجات الحداثة؟ وكيف يرى مديات تطورها مع تسارع تيارات الجديد.
يقول موسى: "التطور والتجارب التي حصلت في قصيدة النثر العربية ساهمت في نقل الذائقة العربية مئات السنوات للإمام، وهي التي ساهمت بشكل غير مباشر في تطور الرواية العربية، ولكن المشكلة تكمن في ان القصيدة العربية تتطور والشعراء يتقدمون أميالا طويلة وأشواطا بعيدة فيما يرواح المجتمع مكانه والذائقة الجمعية لم تغادر طفولتها، والتطور الذي يحدث للمجتمع تطور شكلاني فقط يتجلى باستخدام الخلويات والانترنت والسيارات الجديدة والكوفي شوبات، لكن الروح العربية ظلت ترسف في أغلالها ولا تريد الانتقال خطوة للأمام، من هنا نسمع الكثير من الهجوم على قصيدة النثر لأن المجتمع لا يريد التغيير، ربما يبدو الأمر او الحديث عن قصيدة النثر كعلامة على تطور المجتمع كنوع من الجنون وربما يقول قائل ما دخل الذائقة الشعرية بما يسمى قصيدة نثر بتطور الحياة والمجتمع نفسه، ونحن أمة الشعر منذ ألفي سنة، ولسنا بحاجة إلى من يعلمنا العروض والوزن وتذوق الشعر، ويخرب علينا ذائقتنا وتراثنا، لكني أقول حينما يتم الاعتراف بل يتم التعامل مع قصيدة النثر باهتمام واحترام ويبدأ الناس بتقبلها وتذوقها، يمكن القول أن المجتمع العربي انتقل خطوة حضارية للأمام وبدأ يتغير على كل الأصعدة".
وعن تمكن قصيدة النثر من تلبية حاجات الحداثة، فان موسى يرى انها لا تقف عن حد معين، ويقول:
"لعلي لا أبالغ لو قلت لك انها تفوقت على النقد وعلى مدارس الحداثة العربية وهي عبر حاسة الشم فقط، تخطت حواجز التكلس ومارست دورها بفاعلية عز نظيرها، ولكنها من الحداثة بحيث لا يسهل التقاط القفزات الهائلة التي حققتها لانها لا يمكن ان تستقر عند خط معين وحينها ستتحول إلى نمط كلاسيكي ثابت ومهترئ، فميزة قصيدة النثر كما أفهمها انها لا تقف عند خط معين او شرفة معينة، فلا بد من المضي قدما في سيرها وهذه ميزتها، ولك ان ترى المديات الأخرى كيف تتقدم، والذائقة المتحجرة التي لا تريد الانتقال إلى العصر تتوقف عند انماط التلقين والجمود".
العراق بعين حوامدة
الشاعر حوامدة يؤرقه المشهد الثقافي العراقي، ذلك انه مهتم بعراق حي معاش ويشعر بقلق من فوضاه وارقه الأليم في البحث عن هوية ثقافية.
اذ يقول:"رب ضارة نافعة كما يقول المثل، فالمشهد العراقي رغم الكوارث التي ألمت به منذ سنوات ما زال حيا وقادرا على الإنتاج سواء في المنافي (وقد اكتسبت تجاربه فيها أبعادا جديدة وشكلت إضافات جمالية ونوعية) او في الوطن الذي يلملم المثقفون شظاياه بأيديهم العارية، لكنني أنظر دائما إلى الحراك الداخلي باعتباره الأهم لانه الحاضنة الام، وما التجارب الكبيرة إلا تلك التي تُصقل وتنمو داخل ترتبها، لكن المأساة العراقية الشبيهة بالمأساة الفلسطينية، جاءت فيها أوقات صعبة؛ تعذر خلالها الحمل داخل البيت، لكن العبقرية تتجلى دائما بالتغلب على المحظورات والتشبث بالهوية الثقافية واستمرارها خارج الوطن بديلا عن الضياع والتمزق داخله، لكنني على يقين ان العراق الذي يختلف كليا عن فلسطين قادر على النهوض بشكل أسرع وأكثر ثباتا وجدارة، ولن يطول الوقت حتى يعود العراق لواجهة المشهد الثقافي العربي، وقد بدأت تتبلور في الداخل نماذج وتجارب ثقافية، وتوقف نزيف الهجرة الى الخارج. ولعل الفوضى التي شهدها العراق ثقافيا سوف تتبلور في تجربة غنية حالما يتم الانتظام تماما وتزول المعوقات ويعود الوضع إلى الاستقرار والطمأنينة، وحينها سوف ينجح العراقيون في الوقوف بثبات من جديد، في هذه البلاد بلاد الرافدين سر الخصب فليس كثيرا عليها ان تعود للحياة وهي معتادة على مثل هذه الكبوات، لكنها لم تتوقف عن تغذية شريان الحياة بأساطيرها وثقافتها وإبداعاتها المتوارثة عبر العصور والخلاقة في كل زمان".