الشّيخ موفق طريف الرّئيس الرّوحيّ للطّائفة الدّرزيّة يصدر كلمة تزامنًا مع الذّكرى السّنويّة لوفاة سيدنا الشّيخ أبي يوسف أمين طريف (ر)
تزامنًا مع حلول الذّكرى السّنويّة الثّامنة والعشرين على وفاة سيّد الجزيرة وشيخ العشيرة المرحوم سيّدنا الشّيخ أبي يوسف أمين طريف (ر)، أصدر فضيلة الشّيخ موفق طريف الرّئيس الرّوحيّ للطّائفة الدّرزيّة كلمته التّذكاريّة وهذا نصّها:
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله تباركَ وتعالى على نعمة الحمد، والصلّاة على أنبيائه ورسله أصحاب الفضل والمجد. سبحان من شاء فأوجد الإنسان، وهداهُ للصّوابِ وعلّمه البيان. لا طابت الدّنيا إلّا بذكره ولا الآخرة إلّا بلُقياه، لا إلهَ غيرُه ولا معبودَ سواه.
أخوتي وأخواتي أبناء الطّائفة الدّرزيّة في كلّ مكان،
ثمانٍ وعشرون سنةً مرّت على غياب سيّد الجزيرة الأطهر وحرزها المحفوظ الأنور، فضيلة المرحوم سيّدنا الشّيخ الطّاهر الأمين أبي يوسف أمين طريف رضي الله عنه ونفعّنا بصالح ذِكراه.
ثمانيةٌ وعشرون عامًا ولا يزالُ هذا الوجه المشرقُ بالنّور، يمدّنا بالأمل والقوّة الرّوحيّة، مستمدّين من فيضِ إشراقهِ بركةَ هذا الوليّ الطّاهر الجليل، الّذي أضحى خلال سنوات حياتهِ أيقونةً روحيّة فريدةً، ونبراسًا توحيديًّا شامخًا على مرّ العصور.
إذا أمعنّا النّظر إلى تاريخنا التّوحيديّ العريق، لا بدّ أن نصادف قائمةً كبيرة من الكواكب والنّجوم الزّاهرة لشخصيّات توحيديّة فذّةٍ لامعة، ذاع صيتُها في كلّ مناحي الحياة دينيًّا وزمنيًّا، وبرزت أعمالها في تمهيد سُبُل الخيرات والدّعوة إلى المعرفة والعرفان، ولمع نورُها في تثبيت المناقب والتّعاليم والإحسان الّتي انتقلت بين النّاس سلفًا عن خلف، عائدةً بأصولها إلى تعاليم الأنبياء الكرام ومسالك الأولياء الأعيان من السّلف الصّالح.
وممّا لا شكّ فيه أنّ المرحوم سيّدنا الشّيخ أمين طريف، هو واحدٌ من هؤلاء الأساطين أصحاب الفضل والفضيلة، الّذين كرّسوا حياتهم من أجل أداء رسالة التّوحيد، بعد مسيرةٍ طويلةٍ من الزّهد وإنكار الذّات والتقرّب بالورع والتّقوى إلى الله تبارك وتعالى.
منذ مطلع شبابه، دأب المرحوم سيّدنا الشّيخ على طلب المعرفة والتّعلّم، وبرز بين رفاقه بمسلكه التّقيّ الخفيّ، زاهدًا في الدّنيا وشهرتها، وعازفًا عن كلّ ما يشغله عن الله تبارك وتعالى، مخلصًا له في السّرّ والسّريرة، ومروّضًا لنفسهِ الّتي تجوهرت بالاجتهاد وصفت، وأهّلته ليحملَ السّيادةَ طوال عقودٍ طوالٍ من الزّمن.
في كلّ عام وفي مثل هذا التّاريخ، نسترجع سيرة سيّدنا الشّيخ بقلوبٍ منكسرةٍ حزينة، مستذكرين ما كان له من أيادٍ بيضاءَ ناصعة في خدمة أبناء الطّائفة والسّير بالمصلحة الطّائفيّة نحو برّ الأمان. فقد قضى سيادتُه طوال سنين حياته متنقّلًا بين البيوت والنّاس، مهتمًّا بسماع أخبارهم، وفاتحًا أمامهم بابَ داره وقلبهِ، محزونًا لحزنهم، مسرورًا لفرحهم، ساهرًا على حقوقهم، وجابرًا لخواطرهم مع إحقاقّ الحقّ ونُصرة أصحابه، حيث كان لا يخشى في قول كلمةِ الحقّ لومة لائم، ولا ينثني عن الصّدق في الدّعوة إلى العدل المطلق والانتصار للمظلوم من الظّالم.
كلّ هذا بأسلوبٍ راقٍ جميل، وكلامٍ عذبٍ سلسبيل، جعله محبوبًا في قلوب العالمين، ومكرّمًا في المجالس والدّواوين، يُشار إليه بالبنان وتتناقل قصص أفضاله على كلّ لسان، مقبولًا حيث توجّه، صادقًا إن وعد، شجاعًا إذا انتقد، مخلصًا لله في السّر والعلانيّة، مرموقًا بين الخلق بمحامده السّنيّة، ومناقبه المميّزة النّورانيّة.
فما إن كان يحلّ اللّيل وتنامُ عيون النّاس، كان فضيلته يقوم إلى الصّلاة بكلّ صدقٍ وإخلاص، متوسّلًا بآيات الفلاح، طالبًا من مولاه السّماح، وقد صادفته كثيرًا وهو جالسٌ يبكي ويئنّ، ويشكو إلى مولاه ما يعانيه من اشتياقٍ بصوتٍ شجيّ يحنّ، باسطًا بين يديّ الله أخبار يومِهِ وأعماله، طالبًا منه تعالى أن يسدّد خطاه ويستجيب لدعائه وأقواله، معترفًا بالعجز والتّقصير، وذارفًا في حبّ مولاه الدّمع الكثير، فبرزت منه ما سُمع وعوين من الكرامات العجيبات، وأشارت إليه النّاس مع اختلاف أديانها ونَسَبها واللّغات، معروفًا عند خالقه تعالى بالصّدق المحض واليقين، ومشهورًا بين شيوخ عصره بما ظهر عنه من الجمعِ بين القيادة في الدّنيا والسّيادة في الدّين.
وها نحنُ اليوم، وبعد ثمانٍ وعشرين سنةً على رحيل فضيلته، لا زلنا نلتقي روحيًّا تحت ظلّ صورته، ونتمسّك بما سمعناه عنه من نصائحه وحكمته، حاملين من بعده برفقة مشايخنا الثّقات أعباء الخدمة والمسيرة، وسائرين على نهجه وخطّته في الحفاظ على هذه الأمانة الكبيرة، عاملين بموجب ما طالبنا فيه من تثبيت القيم التّوحيديّة في نفوس أبناء الطّائفة وبناتها، والسّهر على خدمة مواقعِها المقدّسة ومقاماتها، مكرّسين كلّ ما أوتينا من بعدِ فضيلته من أجل المضيّ بالطّائفة الدّرزيّة إلى نيل كامل الحقوق وتحقيق الكثير من الإنجازات، مؤكّدين أنّنا لا نزال نستمدّ البركةَ من ثقته وسيرته، ونستلهم الحكمةَ والفطنةَ من فيضِ تراثه وحكمته.
في مثل هذه الأيّام العصيبة الّتي تشهدُ فيها الطّائفة تراخيًا في العادات والتّقاليد، واندثارًا تدريجيًّا لمعالم الحلال والحرام والوقوف عند حدود الله، تستزيدُ الحاجةُ أكثر من أيّ وقتٍ كان إلى إحياء ذكرى المرحوم سيّدنا الشّيخ أمين وغيرهِ من الشّخصيّات والهامات، الّتي لا زلنا على نهجها نستمرّ ونحيا، وبذكراها الطّيّب نستنير ونرقى.
رحم الله سيّدنا الشّيخ وأعاننا جميعًا على حسن الاتّباع وطيب الاقتداء، والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.