مقال بقلم محمود خطيب ردًّا على تصريحات رئيس الدَّولة شمعون بيرس الذي يعتبر أنَّ الفقر عند عرب اسرائيل هو نتاج سياسي والعرب أنفسهم مسؤولون بشكل مباشر عنه
هذا القول من المأثور عن العرب يضرب لمن يعطي الرديء وينقصه، وقصته أن رجلا ابتاع تمرا من رجل آخر وكان تمرا سيئا ، ولما وضعه بالميزان أنقصه وطفف فيه ، فقال له الرجل المبتاع "أحشفا وسوء كيلة". هذا بالضبط ينطبق على رئيس الدولة شمعون بيرس عندما أجاب عن سؤال وجهة إليه من إحدى الصحف العبرية هذا الصباح عن دخول إسرائيل إلى منظمة أل OECD وعن تقرير المنظمة الذي يشير إلى أن معدل الفقر في إسرائيل أعلى منه في دول المنظمة.
فقد قال بصريح العبارة: "إن الفقر في إسرائيل سياسي، شريحتان من السكان في إسرائيل – العرب واليهود المتدينون (الحريديم) تنتجان هذا الفقر" . معروف أن شمعون بيرس يختار ألفاظه وعباراته بتأني شديد وبدقة متناهية، حتى أن بعض أقواله ذهبت مضرب الأمثال مثل :"لا يبكون على الحليب المسكوب"، فلا مجال عندي للشك انه قد يكون اخطأ التعبير. ما قصده بالفقر سياسي، أراد أن يقول أن هنالك سياسة خاطئة في الدولة أدت إلى هذا الوضع، أي انه لا توجد ثقافة بنيوية ترسخ في وعي ولا وعي المؤسسة الإسرائيلية تجاه المجتمع العربي في الداخل يرشح منها تهميش ممنهج، وأراد أن يقول أيضا أن هذا الفقر لا ينبع من عنصرية الدولة التي هي جزء لا يتجزأ من ثقافة المؤسسة الإسرائيلية. "وما زاد الطين بلة" ، قوله أيضا أن العرب واليهود المتدينون (الحريديم) ينتجان هذا الفقر، وأراد بقوله "ينتجان" إلى أن الفقر نابع بالأساس من عوامل تتعلق بالعرب واليهود المتدينين أنفسهم.
ومن ثم يكمل ويقول: " يجب تصحيح الوضع، تطوير صناعات عالية التقنية (هايتك) عند العرب وإخراج النساء العربيات للعمل، ولكني لا اعتقد انه بإمكاننا أن نفرض هذه التطورات. حاول الأمريكان من قبل فرض الديمقراطية في الشرق الأوسط وفشلوا. ولكنه لا يوجد شخص يقول لا لتطوير صناعات التقنية العالية. سيحدث هذا تغييرا في مستوى المعيشة وسيخفض معدل الولادة".
وهنا أبدى بيرس نوايا طيبة لتحسين الوضع ولكنه عاد يلمز ويرمز ويهمز فلم تتعدى النوايا الحسنة 6 كلمات مما قاله في الفقرة السابقة. ويبدأ اللمز والهمز والرمز أولا بقوله انه يجب "إخراج النساء العربيات للعمل"، لا شك أن بيرس قد كرر تصريح شطاينتس – وزير المالية – عندما قال أن مشكلة العمالة عند النساء العربيات تنبع بالضرورة من مشكلة ثقافية، أي أن هنالك حاجز ثقافي عند النساء العربيات يتعلق بكونهن "محافظات" يحول دون دخولهن إلى سوق العمل، وهذا أمر منافي للواقع والحقيقة حيث بلغ معدل نسبة النساء المشاركات في سوق العمل في دول عربية وإسلامية تعتبر محافظة جدا 30% بينما لم تتعدى عند النساء العربيات نسبة ال 20%. بيرس كان اكثر ذكائًا من شطاينتس بقوله انه يجب "إخراج النساء العربيات لسوق العمل"، أي أن النساء العربيات لا يبحثن عن عمل ولا توجد لديهن نية للعمل ويجب إخراجهن للعمل، والواقع يشهد أنه 40% من النساء العربيات الأكاديميات هن خارج سوق العمل، ولا أظن أن من يذهب إلى الجامعة ويحصل على لقب جامعي يفعل ذلك فقط من أجل الترف الفكري والثقافة العامة.
والطامة الكبرى حدثت عندما يعلن مباشرة بعد عرض النوايا "الطيبة" المبطنة الفشل المحتوم لأي خطة حكومية لتحسين الوضع. فقد قارن محاولة الحكومة بتطوير صناعات التقنية العالية في المجتمع العربي و"إخراج" المرأة العربية لسوق العمل بفشل محاولة أمريكا فرض الديمقراطية في الشرق الأوسط. "شو جاب هاي لهاي؟!" ، فقد أراد أن يقول إننا إذا فشلنا فلسنا لوحدنا وأيضا كما هو معروف فالديمقراطية ليست فقط جهاز يمكن تركيبة في كل زمان ومكان وإنما ثقافة تنمو وتتطور عند الشعوب عبر الزمن وهذا لم يتوفر في الشرق الأوسط بعد، لذلك فان محاولة تطوير صناعات التقنية العالية و"إخراج" المرأة العربية إلى سوق العمل سيفشل أيضا لأنه لا توجد ثقافة عند المجتمع العربي تسمح بتطوير صناعات التقنية العالية و"أخراج" المرأة العربية إلى سوق العمل.
ويقول إن "إخراج" المرأة إلى سوق العمل سيؤدي إلى خفض معدل الولادة عندهن، وهذا هو المكان الوحيد الذي يتكلم به بصراحة، فقد قرأت في مجلة إسرائيلية ذات فكر صهيوني ليبرالي تدعى "السماء الزرقاء" "תכלת" مقالا بعنوان "التهديد الديموغرافي" عبارة تقول: "يجب علينا إخراج المرأة العربية إلى سوق العمل حتى نخفض معدل الولادة". ولكن بيرس كان حاذقا أكثر من كاتب المقال في المجلة حيث وضع خفض معدل الولادة النساء العربيات كهدف ثانوي يأتي بعد رفع مستوى المعيشة.
إن أصحاب القرار في إسرائيل لهم وجهات نظر مختلفة بما يتعلق بالوضع الاقتصادي المتردي للمجتمع العربي مقارنة باليهودي، فبعضهم ينكر وجود تقصير من قبل الحكومة ويلقي باللوم على المجتمع العربي كمسئول عن هذا الفجوة، ويدعون على سبيل المثال انه يجب على المواطنين العرب الاستثمار في التعليم والخروج إلى سوق العمل وادعاءات أخرى ليس المجال لمناقشتها الآن. والبعض الآخر، والذي يمثل تيارا واقعيا أكثر في تعاطيه مع القضية، يعترف بوجود تقصير من قبل الحكومة ولكنه يدعي في نفس الوقت أن الفجوات شي طبيعي وموجود في كل مكان، أي انه ليست نتيجة لسياسات وثقافة التهميش المقصودة من الحكومة أو لعدم وجود جدية من الحكومة لمعالجة هذه المشكلة.
وجاء تقرير ال- OECD ليكشف كذب هذا الادعاء بشكل علمي وموثق. فقد جاء في التقرير ما يلي: بلغ معدل الفقر في إسرائيل في العام 2008 19.9% وهي نسبة أعلى من كل الدول الأعضاء في المنظمة وتساوي ضعفي معدل الفقر للدول الأعضاء في المنظمة، ووصلت نسبة الذين يتقاضون أجرا منخفضا في إسرائيل 24.3% في العام 2007 مقارنة ب 15.9% في الدولة التابعة للمنظمة في نفس العام.
لا يقتصر التقرير على مقارنة إسرائيل بدول المنظمة فيما يتعلق بالأجور والفقر وإنما يتعدى ذلك إلى مقارنتها من حيث مجهودها في محاربة الفقر. في إسرائيل فقد بلغ معدل العمال لكل مراقب (المقصود بالمراقبين هم أولائك الذين تلقى على عاتقهم مهمة تطبيق قوانين العمل مثل قانون الأجر الأدنى والحقوق الاجتماعية للعامل) 61.7 ألف في العام 2008، وهذا مؤشر على أن إسرائيل لا تجتهد بما فيه الكفاية في محاربة ظاهرة الفقر. وبلغت نسبة إنفاق الحكومة على الخدمات الاجتماعية من إجمالي الناتج المحلي 15.8% في العام 2008 مقارنة ب 21% في دول المنظمة، حيث تعتبر هذه النسبة منخفضة، ناهيك عن النجاعة في توزيع هذه الخدمات، ففي دول المنظمة يؤدي توزيع هذه الخدمات إلى تقليص معدل الفقر ب 60% بينما في إسرائيل لم تتعدى هذه النسبة أل 25% .
بالرغم من هذه المؤشرات السلبية والتي ليست في صالح إسرائيل والتي لا تعرض في دائرة الإحصاء المركزية في إسرائيل إلا أن إسرائيل تحتل مراتب عليا ومرموقة في مؤشرات أخرى ونحن نعتقد أنه بالرغم مما جاء التقرير فان التوجه العام في المنظمة هو قبول انضمام إسرائيل للمنظمة، وما كان هذا التقرير إلا محاولة لتخفيف من وطأة الخبر الذي كان سينزل كالصاعقة في حال تم ذلك دون تطرق المنظمة لهذه الفجوات، وفي المرحلة القادمة ستقوم إسرائيل بإعلان عن خطة كجزء من قافلة خططها المتعثرة من أجل تطوير المجتمع العربي ردا على ما جاء في التقرير، وهكذا تكون المنظمة قد خففت من وقع الصدمة، وبعد ذلك ستوافق على انضمام إسرائيل.