يضع بنيامين نتانياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي إيران والتهديد الذي تمثله تجاه إسرائيل في أعلى سلّم أولياته الاستراتيجيّة،. فهل فعلا يرى الإسرائيليون أن تهديدا كيانيّا آتيا لا محالة من إيران؟ أم أنّ سياسة نتانياهو الإيرانيّة هي هروب إلى الأمام في مواجهة استحقاقاته تجاه القضيّة الفلسطينيّة والعربيّة بشكل عام ؟
الحرب الإيرانية الإسرائيلية المتوقعة حتى وإن ما زالت لا تتعدّى التصريحات الناريّة لحكام البلدين حتى اليوم، وحّدت وتوحد الرأي العام الإسرائيلي. فاستطاع حكام إسرائيل خلق أجواء لدى الإسرائيليين بأن هذا الخطر الإيراني محدق وهو فعلا تهديد كيانيّ لهم. رغم أنّ المراقب يستطيع وبسهولة أن يصل إلى خلاصةٍ أن نتانياهو واستراتيجيّيه يعرفون حقّ المعرفة أن خطرا كهذا بعيد الحصول، ويصل إلى أن وضعهم إياه على هذه الدرجة من الاهتمام ما هو إلا هروب إلى الأمام أمام استحقاقات إسرائيل تجاه القضيّة الفلسطينيّة والعربيّة، هذه الاستحقاقات الكفيلة بإسقاط أي حكومة إسرائيليّىة حتى كالقائمة اليوم والمتجانسة مبدئيأ، ويصل إلى أن "حربهم" ما هي إلا حرب بقاء حكوميّة وليست حرب بقاء كيانيّة.
تنشب الحروب عادة إما انطلاقا وعلى خلفيّة تناقض مصالح تناحريّ أو انطلاقا وعلى خلفيّة تناقض قيميّ تناحريّ وفي الغالب يتداخل هذان المنطلقين مع غلبة لإحداهما على الآخر. إسرائيل ترى وعلى الأقل هكذا تدّعي أنّ الحرب التي ستشنها إيران عليها هي حرب يغلب عليها الطابع القيميّ وليس المصلحيّ فهي أي إسرائيل لا تشكّل أي خطر جديّ على المصالح الإيرانيّة.
فحرب إيران على إسرائيل مرتبطة بالذهنيّة الإسلاميّة الشيعية – الخمينيّة والقائلة: إن إسرائيل هي خطأ وخطيئة تاريخيين بمجرّد وجودها أو وجود اليهود ليس تحت سلطة إسلاميّة لا بل وتحكم مسلمين ومغتصبة أرضا إسلاميّة وبالذات القدس. وهذا بحد ذاته خطيئة في حقّ الإسلام والمسلمين وفقط بإزالة إسرائيل وإعادة الأرض والسلطة ليد المسلمين يمكن أن يُكَفّر عن هذه الخطيئة ويُصحح الخطأ ويُعاد العدل إلى نصابه ولا مجال للمساومة في ذلك.
هذا الموضوع بات شغلا ليس فقط للساسة الإسرائيليين وإنما للكثيرين من الباحثين الإسرائيليين، يتناولونه من شتّى جهاته مكرسّين له اهتماما خاصّا ولو من باب الحذر، فالفيزيائي والباحث التنفيذيّ موشي فيرد تناول الحرب الإيرانيّة الإسرائيليّة المتوقّعة ببحث جدّي صادر عن مركز بيجن – السادات للشؤون الاستراتيجيّة وتحت عنوان: "مدّة الحرب وشروط انتهائها في حرب مستقبليّة بين إيران وإسرائيل"، نُشر في نشرة "تطلعات في الأمن الشرق أوسطي رقم 82" الصادرة عن جامعة بار إيلان.
التعمّق في هذا البحث يوصلنا إلى الخلاصة أن حربا كهذه بعيدة الوقوع رغم كل ما نشهده من وضع حكام البلدين خطر نشوبها وكأنه قاب قوسين أو أدنى منّا. فلا يفتأ الرئيس الإيرانيّ ومَن حوله بإطلاق شعارات التحذير والويل والثبور لإسرائيل، ويحملها حكام إسرائيل صبح مساء ويشغلون كل من حولهم ويشغلون العالم وبكونهم الضحيّة وليس الفتيل، فلا تغيب إيران إن لم تكن في رأس جدول أعمال كل لقاءاتهم الدوليّة.
يقول فيرد وبالاعتماد على مصادره الكثيرة والمتنوعة أن لا أحد يعرف متى ستنشب مثل هذه الحرب في المستقبل المرئي، إذا كانت ستنشب أصلا !. وهنالك من يعتقد أن حربا كهذه غير متوقعة وبالأساس لأن تناقض مصالح حقيقيا غير قائم بين إيران وإسرائيل والخلفيّة القيميّة لن تكون وحدها كافية لإطلاق شرارة هذه الحرب.
ومع هذا فالخوف من إمكانيّة نشوبها يحتّم ولو من باب اليقظة، تحضيرات إسرائيليّة ملائمة: ذهنيّة وسياسيّة واستراتيجيّة وعسكريّة وبالأساس في مواجهة مدتها الطويلة المتوقعة ويحتّم خلق ظروف إنهائها السريع المرغوب والمطلوب لإسرائيل.
طول مدة هذه الحرب مرتبط بالذهنيّة الشيعيّة – الخمينيّة آنفة الذكر، وحرب إيران العراق 1980-1988 البيّنة على ذلك رغم الفارق الأساس المتمثل في البعد الجغرافي. وطولها مرتبط كذلك بشكل حدوثها المتوقع: الصاروخي والطيراني أو حتى الإرساليّ بمعنى اشتراك قوى "إرساليّة" كسوريّة وحزب الله وحتى جيوش إيرانيّة منقولة.
الأمل بألا تنشب حرب بين إيران وإسرائيل في السنوات القريبة، رغم كثرة الحديث عنها من الطرفين، نابع من الافتراض أن العداء الإيراني لإسرائيل هو دينيّ ومرتبط بالقناعة الشيعيّة المتمثلة في الاستعداد للتضحية اللامتناهية من أجل العدالة ولكنه عداء سيبقى في مجال الكلام، فالتضارب في المصالح السياسيّة والاقتصاديّة بين الدولتين لا يحتم أو يستأهل حربا.
وإذا نشبت حرب رغم كل ذلك فستكون طويلة الأمد ولسنوات وليس لأسابيع. هذا التقييم مؤسس من وجهة النظر الإسرائيليّة على الذهنيّة الشيعيّة – الخمينيّة والتي لعبت دورا أساسيّا في طول الحرب العراقيّة الإيرانيّة، ومؤسس على مواصفات حربيّة محتملة ومحاولات حربيّة إسرائيليّة لتقصير مدتها وتدخل دول كبرى وكلها لا تؤشر على آلية مضمونة لتقصير مدتها بشروط تكون مقبولة على إسرائيل التي ترغب بها قصيرة.
بنى دافيد بن غوريون رئيس الوزراء الأول ووزير الدفاع الأول عقليّة أمنيّة تؤمن وتضمن حروبا قصيرة الأمد بسبب مبنى المجتمع والاقتصاد الإسرائيليين، لأن حربا طويلة الأمد تضع إسرائيل أمام تحديات صعبة خصوصا اجتماعيّة واقتصاديّة وعسكريّة. ولذلك على إسرائيل ألا تتجاهل الإمكانيّة المحتملة بشكل كبير لطول الحرب إن نشبت، ولهذا عليها أن تتحضر ومسبقا وأولا في مجال الاستعداد الذهنيّ وبعدها التحضير لتقصيرها ومن خلال الحفاظ على المصالح الإسرائيليّة.
أميل إلى الرأي الأول لموشي فيرد وهو أن حربا كهذه بعيدة النشوب إن لم تكن مستحيلة النشوب حتّى، وهذا لا يمنع إمكانيّة وقوع حرب "تناوشيّة" إذا صحّ التعبير بعيدة كل البعد عن حرب تقليديّة. فلن تكفي خلفية قيميّة وإن كانت قائمة لشنها إن لم تمتزج بتناقض مصالح حقيقيّ يمكن أن يطال الوجود وهذا غير قائم.
هكذا كان الحال في الحرب الإيرانيّة- العراقيّة إذ امتزجت فيها الخلفيّة القيميّة والخلفيّة المصلحيّة. فالعراق شنّ الحرب ودخل الأراضي الإيرانيّة في المرحلة الأولى عام 1980، لكن إيران صدته حتى العام 1982 ولم تكتف فحاولت احتلال أرض عراقيّة حتى العام 1984 ونجحت جزئيّا. وراحت الحرب بينهما تراوح مكانها في حرب استنزاف حتى العام 1986 بعدها شنّت إيران هجوما أخيرا لاحتلال جنوب العراق نجحت جزئيا لتستمر حرب استنزاف حتى 1988 وضع حدّا لها الهجوم العراقيّ المعاكس الذي كسر الجيش الإيرانيّ وبدأ توغلا جديدا في الأراضي الإيرانيّة، وفقط عندها وافقت إيران على وقف إطلاق النار.
صدرت خلال الفترة الأولى من الحرب ثمانية قرارات لمجلس الأمن رفضتها كلها إيران ورفضت كل مساعي الوساطة لوقفها. وتعليلها كان قيميّا ممزوجا بمصلحيّ رغم أن القيميّ طغى، والقائل: "السلام مع صدّام سيكون مناقضا لمبادىء الإسلام، لتراث النبيّ ولسلالة الأئمة الشيعة – وبما أن على المؤمن الصادق إتّباعهم فعليه ألا يخطر على باله سلاما مع صدّام حسين الكافر والظالم والمكروه مثلما لم يخطر على بال النبيّ والأئمة سلام مع الكفار والظالمين".
تغيّر هذا الموقف فقط عندما مالت الكفّة للعراقيين عام 1988 وكُسر الجيش الإيراني فقبلت إيران القرار 598 الصادر عن مجلس الأمن، لأن مصالحها باتت في خطر وبالذات مصلحة بقاء النظام. ففي بداية الحرب رفضت القرارات لأنها لا تضمن تنحيّة صدّام ومقاضاته. وبعد أن بدأ الميزان يميل لصالح إيران صار المطلب تصحيح الجرم وإحلال العدل المطلوب حسب الفكر الشيعي- الخميني. إلى أن تغيّر الميزان وصارت قضية المصلحة البراغماتيّة ببقاء النظام بعد أن كسر الجيش الإيرانيّ وباتت الهزيمة النهائيّة حتميّة، هي الأساس. وعندها غاب المبدأ القيميّ أمام المبدأ المصلحيّ فقبلت القرار وانتهت الحرب ببقاء النظام الصدّاميّ وبقاء النظام الإيرانيّ.
الضرر الإيراني من الحرب كان قرابة نصف مليون قتيل وقرابة المليون جريح وقرابة المليونيّ مشرّد ولاجيء، وألف مليار دولار ما يساوي ضعفي إنتاجها من النفط منذ أن بدأت تنتجه عام 1919 وحتى العام 1988. كل ذلك كل هذه التضحيات لم تقنع إيران بوقف حربها العادلة من الوجهة القيميّة التضحويّة ما دام ذلك لم يكن يخطّر المصلحة العليا لإيران بوجود النظام إلى أن انهزم الجيش الإيراني فنحت نحو المصلحيّة البراغماتيّة، فقيمة الحفاظ على النظام الإسلاميّ تستأهل التنازل عن قيمة القضاء على أعداء الإسلام.
لن تستطيع إسرائيل أن تسبب لإيران ما سببته العراق ولو من باب البعد الجغرافيّ ولن تستطيع إيران أن تسبب لإسرائيل ما سببته للعراق ومن نفس الباب. وإذا كانت الحرب "إرساليّة" لخلق هذا التواصل فلن يتم إلا عن طريق سوريّة ولبنان وغزّة ربّما، وهذا من المستبعد أن يحدث وفقط من منطلق قيميّ مهما كانت الخلفيّة القيميّة. فالبراغماتيّة في النهاية هي التي ستلعب الدور الأساس عند كل من يمكن أن تكون له علاقة بالأمر.
كل هذا ولا يغيب عن بالنا أن إسرائيل دولة نوويّة ومدعومة غربيّا والخطر الإيراني حتى بامتلاك القنبلة النوويّة لن يكون إلا ردعيّا، ولذلك فحرب إيرانيّة إسرائيليّة تقليديّة شبه مستحيلة الوقوع. وإن حدثت لن تتعدّى أن تكون حربا "تناوشيّة" بتبادل هجمات صاروخيّة وطيرانيّة وفقط إذا لاقت إسرائيل غطاء غربيا، وهذا الغطاء الغربيّ سيعطى فقط إن رأى الغرب أن مصالحه الشرق أوسطيّة وبالذات في الخليج فعلا مهدّدة. وإن حدثت هذه الحرب ستكون كذلك طويلة الأمد الأمر الذي لن تتحمله إسرائيل وفقط ثمنا لتهديد بعيد المدى وغير مرئي.
هذا الانهراق الإسرائيلي على الخطر الإيرانيّ ووضعه في السياق القيميّ وبمعزل عن أية علاقة بالاستحقاقات الملزمة إياها تجاه الفلسطينيين والعرب، ليس إلا هروبا إلى الأمام من الاستحقاقات الفلسطينيّة عليها والذي لن يطول الأمد ليفرض المجتمع الدوليّ عليها تنفيذها بعد أن تعدّى الأمر مطالبتها بتنفيذها. وهذا الانهراق مرتبط ارتباطا عضويا باستحقاقات البقاء في السلطة المتبادلة حزبيّا في إسرائيل مستغلّة غياب استراتيجيّة فلسطينيّة عربيّة بديلة عن القائمة اليوم لحل النزاع، وبالراحة التي تعيشها إسرائيل في هكذا وضع والتي تريد له أن يستمرّ دون أن تكشف نفسها بغياب فعل معيّن أمام ضغوط دوليّة، والتهديد الإيرانيّ هو الفعل.