"*نجاة عبد الصمد*
أقدّم هذه الأفكار هنا على صفحتي كتسجيلٍ شخصيّ، مكثفٍ ومختصر ما أمكن، لوقائع زيارة سماحة شيخي عقل طائفة الموحدين الدروز في السويداء إلى ألمانيا:
حضر سماحة الشيخين إلى برلين بدعوة من قسم الدراسات السامية في جامعة برلين الحرة، كبرى جامعات برلين وإحدى أهم الجامعات البحثية في الدراسات الإنسانية والعلوم الاجتماعية. وتندرج الدعوة في سياق دراسات الجامعة، فقد سبق لها أن أدارت لقاءاتٍ مع ممثلين لطوائف أو مكونات مختلفة.
امتدّ برنامج الزيارة على ثلاثة أيام: محاضرتان وورشة عمل على منابر الجامعة بتاريخ 27 و 28 نيسان، مع ترجمة فورية إلى اللغة الألمانية (وإن لم تكن الترجمة بالجودة الكافية)، بحضور أساتذة وطلاب جامعة وصحفيين سوريين وألمان وسواهم، إنما كانت غالبية الحضور من السوريين، وعلى الأخص منهم أبناء وبنات طائفة الموحدين الدروز، وهؤلاء حضروا أيضاً من مختلف المدن الألمانية والأوربية، وهم من مشارب مختلفة في توجّهاتها أو في أسباب الحضور، اهتماماً أو فضولاً أو رصداً غير محايد لحيثيات هذه الزيارة. واقتصرت فعالية اليوم الثالث 29 نيسان على لقاء الشيخين في صالةٍ عامة بالجالية السورية أفرادا وعائلات.
في محاضرتيهما، عرّف الشيخان بمذهب التوحيد كمنهاج أخلاقي وتربوي، يرتكز إلى الإيمان بالله بالعقل، وعدم الإشراك بوحدانيته، والرضى والتسليم بمشيئة الله وعدله، وعلاقة المستجيب للتوحيد بنفسه، وبخالقه، وبمحيطه الصغير والكبير، وأنها رسالةٌ لم تنشر بالسيف، بل بالتخيير في الاستجابة إليها أو عدمه، كما أنها غير تبشيرية، وأن الرسالة التي يحملها الشيخان إلى برلين هي التعريف بالتوحيد كرسالةٍ من أجل المحبة والسلام وسعادة البشر. في إطار نشأة المذهب وتاريخه، أشار الشيخ جربوع إلى أن بدايات فكرة التوحيد موجودة منذ قديم الزمان، وهي أقدم من نشوء الديانات الابراهيمية، وأحال مسمّى (الدروز) إلى الكلمة اليونانية التي تعني (العلم والمعرفة)، وعلى حدّ اطلاعي لم تبدأ هذه الإحالة بالظهور إلا في السنوات القليلة الأخيرة التي نشطت خلالها حركة التشييع في محافظة السويداء، بينما تتفق المراجع التاريخية الموثوقة على أن التسمية تعود إلى الداعي نشتكين الدرزي الذي تذمّه جماعة الدروز.
في ورشة اليوم التالي توسّع الشيخان في شرح أركان المذهب وعادات وتقاليد متبعيه وشرح مكانة المرأة العالية في شرع التوحيد وتطبيقه. ثم شرحا تراتبية التكليف في مجتمع الموحدين بدءاً من مشايخ العقل الثلاثة إلى مرتبة (السايس) في كل حيٍّ أو قرية...
توالت الأسئلة خلال اليومين، وبالذات أسئلة جيل الشباب، التي صاغوها بوضوح وأرادوا سماع أجوبة عملية، وبالذات منها التي تفضي إلى السياسة بوضوح أو التفاف. ولم يخرج الشيخان عن الموضوع الديني على الإطلاق وتشاركا على الإجابات بحذر وذكاءٍ ونبرةٍ في غاية الحيادية، حتى إن الشيخ الحناوي صاغ إجاباته ببلاغةٍ أقرب إلى منهج الصوفية.
بالطبع يمكن تفهم المطبّات التي تواجهها تجربةٌ حديثة في الإفصاح عن معتقد جماعة مغلقة دينياً منذ نشوئها قبل ألف سنة، وقد تعمّد الشيخان ألا يفتحا الباب على خصوصيات باطنية المذهب وأن يكتفيا بسرد تاريخه وحاضر مجتمع الدروز في السويداء، في حين لا يمكن الإحاطة بمذهب التوحيد ما لم تؤخذ حيثياته مجتمعة. مثالٌ بسيط: حين يقول الشيخ إنّ فكرة التوحيد موجودة منذ قديم الزمن، لا يمكن الأخذ بها بمعزلٍ عن الاعتقاد بالتقمص، الذي يدخل في صلب منظومته، بينما لم يعرّج الشيخان عليها. وعلى هذا المنوال بدت أجوبةُ الشيخين مبهمةً في مواضع كثيرة بحيث تعذّر فهمها على جمهور المستمعين.
يمكن إيراد أمثلةٍ من الأسئلة التي طرحها الشباب والأجوبة التي جاءت عليها؛ وعبر إطلاق هذه الأسئلة، لا على الأجوبة، يمكن تقدير النتائج التي قد تُبنى على هذا اللقاء:
*قد ينتج عن زيارتكم أن تُدرج دراسات توحيدية في جامعة برلين الحرة، فهل ستسمحون للمهتمين والدارسين بالاطلاع على رسائل الحكمة؟
ـ نحن لن نطلعهم بأنفسنا لأنه غير مسموح لنا، ولكنهم يستطيعون ايجادها عبر محركات البحث.
*لماذا لا يسمح للدروز بالزواج من خارج الطائفة؟
ـ لأننا أقلية ولو فتح هذا الباب لما حافظت هذه الجماعة القليلة على تماسكها ولا على وجودها، وقد تذوب في الطوائف الأخرى وتنمحي أو تضيع.
*ما هي عبادات الدروز؟ كيف يعبّر هذا الشباب المغترب في ألمانيا وسواها عن هويته الدينية لأبنائه أو للآخرين على اختلافه ما داموا ممنوعين من الاطلاع على تعاليم المذهب في حال اختاروا لأنفسهم عدم التديّن؟
ـ لنا ممثّلنا هنا في ألمانيا، شيخ شاب من أبناء الطائفة، تم التوافق عليه واختياره من قِبلنا ليجيب أبناءنا على أسئلتهم ويقدم لهم المشورة التي يحتاجون. أملنا فيكم يا شبابنا هنا أن تتقيدوا بقوانين البلد الذي تعيشون فيه على ألا تنقطعوا عن التواصل مع أهلكم ومجتمعكم لتعرفوا هويتكم وجذوركم ومرجعياتكم.
*السؤال التالي تم طرحه من قبل نساء: ينظر مذهب التوحيد إلى المرأة على أنها كاملة عقل ودين وقد أنصفها الشرع في أمر الميراث بأن للذكر مثل حظ الأنثيين، والشرع واضحٌ كذلك في الحكم على من خرج على الجماعة بالزواج من طائفة أخرى ذكراً كان أم أنثى: أن يُبعَد ويُنبذ. وأن: "القتل لا يستحسنه أحد إلا أن يكون كافراً". لكن العرف الاجتماعي السائد يطغى على أحكام الشرع والقانون، وقد أفضى مع الزمن إلى حرمان النساء من الميراث وإيداع المطلقات أو العازبات المسنات في (غرفة المقاطيع)، وإلى ما يسمّى ب (جريمة الشرف) بحق النساء الخارجات عن الطائفة بينما لم يعاقب المجتمع الرجال بالمثل!
أجاب الشيخ جربوع بالتفصيل على حق المطلقة في ميراث زوجها ولم يتطرق إلى إرث البنات من آبائهن، وأن الوصية هي المعمول بها، وأنه لم تحدث في مجتمعنا جرائم شرف. (ولعله قادرٌ على جوابٍ مختلف، إنما أحجم عنه كي لا تؤخذ فكرةٌ خاطئة من قبل الحاضرين عن وجود أي شكلٍ من أشكال العنف في مجتمع الدروز)
*هل من نصٍّ شرعي في أصول المذهب حول توريث مشيخة العقل في العائلات الثلاث في جبل العرب؟
ـ لا يوجد نصٌّ شرعي. لكنه يسري كعُرف.
*كيف يجري التنسيق بينكم وبين مشايخ العقل في لبنان وفلسطين؟
ـ نحن سوريون ومرجعياتنا سورية.
أنقل لقاء اليوم الثالث كما جرى، لقاء المشايخ بأبناء الجالية في برلين، والقادمين من عدة مدن ألمانية بعيدة، جاؤوا عائلاتٍ وأطفالاً، دخل بعضهم يحدون بالجوفيات، ودام اللقاء ثلاث ساعات بما لا يختلف عما يدور في أية مضافةٍ على امتداد جبل العرب. يمكن إجمال حديث الشيخين: كان موقفنا منذ بداية الأحداث في سوريا هو الحياد الإيجابي وعدم التورط في هدر الدماء، سخّرنا الدين لخدمة الوطن وقد أثبت موقفنا صحته، وبه حمينا أنفسنا وبيوتنا، وصنّا عرضنا وكرامتنا، لكن حال سوريا في السنوات الأخيرة، والسويداء خصوصاً لا يمكن الخروج منه إلا باستتباب القانون. لقاؤنا بكم يا أبناءنا هو نعمة من الله، جئنا نوثق الصِلات بيننا وبين الآخرين عن طريق أهل الثقافة والعلم والمعرفة، ونعرّف عن أنفسنا جماعةً إنسانية تحترم العلم والقيم والفضائل وتحترم الآخر، وركزنا في حديثنا في الجامعة على الصفات والخصائص الإنسانية في سفارة التوحيد، وكلكم يا أبناءنا سفراء لتاريخكم وقيمكم ومعتقدكم، وللنساء من بينكم شأن كبير. وقدّم الحاضرون مداخلاتهم وشكاواهم التي يتعلق معظمها بواقع الأهل في سوريا وقليلٌ منها بشؤونهم في المغترب، التي بدورها ليست قليلة. ومن أهمها معاناتهم في مسألة الهوية. طلبوا تأليف كتيّبٍ منهجي يتاح للمتدينين وغير المتدينين تُشرح فيه أصول المذهب بتعاريف واضحة ليعرفها أبناء الطائفة أولاً، وليقدموا كيف يقدمون أنفسهم إلى الآخر المختلف.
هذه الزيارة حدثٌ شجاع، يحصل للمرة الأولى، أن تُقدّم طائفة الدروز نفسها بنفسها على منبرٍ جامعيٍّ معتبر، وعلى لسان رموزها الروحية ممثلة بمشايخ العقل، كمكونٍ اجتماعي بقدر ما هو دينيّ، بل قد يغلب الاجتماعي فيها على الديني، كونها تكاد تكون الطائفة الوحيدة التي يتماهى الديني فيها مع الاجتماعي حتى في أوساط الغالبية غير المتدينة، التي تزيد نسبتها عن 80%، وهي تكاد لا تعرف شيئاً عن عبادات المذهب الدرزي ولا تهتم لهذا، ومع ذلك تقدّم نفسها بفخر إلى الآخر أيٍّ كان على أنها درزية.
تكمن شجاعة هذا الحدث في فتح الأبواب المغلقة وإن كان مجرد فتح موارب، وكان لا بدّ من وقوعه، بل تأخّر وقد أصبحنا في القرن الحادي والعشرين، وهو ليس إلا الخطوة أو النواة الأولى، وقد يبنى عليه الكثير، ويجب استثمار هذه الخطوة من قِبل الأكاديميين المعنيين بهذا الشأن والقادرين على تسييره جنباً إلى جنب مع رجال الدين كلّ من مكانه، على شكل دراسات ولقاءات ميدانية تحت مسمى: الدروز خلفيات وتحديات وآفاق مستقبلية. كل ما كان منغلقاً خلال القرون الماضية في تاريخ الطائفة لن يبقى منغلقاً وقد أصبحنا في القرن الحادي والعشرين ولا بد من استحقاق مواجهة الأسرار وتطوير الطائفة لخطابها الشخصي تجاه نفسها والآخر المختلف عنها في سوريا وفي محيطها العربي والإسلامي بطريقةٍ تخرج عن القديم السائد، أقلّه للتقليل من الغموض الذي يكتنف جماعة الدروز، وللبدء بتقريب المسافات الهائلة بين المكونات السورية خصوصاً، والإسلامية عموماً، أيّا كانت الصيغة التي سوف يؤول إليها مصير الدولة السوريّة في أخطر مرحلةٍ تمر بها منذ نشوئها."