قابضا سرّ الحياة والموتُ مني قيدُ حين
والوعدُ يقتلني ويضنيني الجفاف
هذه مقدمة احدى قصائد الديوان التاسع للشاعر شفيق قبلان، وهي بعنوان لهب البشرى. وقد اخترتها لإعطاء لمحة لما يبدو للقارىء المتمعن في السطور كوصف غزلي للمحبوب حين يقول:
قل يا لهيبُ وبشر القلب المُعنى يا لهيب
لتذوب أوجاعي وآهاتي...
لكن قارىء ينقب خلف السطور، ليعزق حول جذور الكلمات، باحثا عن كنوز معانيها، سيصل حتما الى أسرار الباحث عن حقيقة الأفكار والوجود، وهذا ما يدل على تأثر الشاعر الفكر الصوفي التوحيدي..
يا أيها الفجر افتقدني،
أعطني حبا وآمالا وأحلاما ونور
وهل كالفجر من وقت أفضل لمناجاة خالق الكون وطلب رحمته، والتقرب الى مقامه، من أجل كشف الأسرار، ومعرفة الحق...
يا أيها المجهول أفصِح هاتِ بشرى من لهيبْ
في عالمي المملوء بالأسرار بالأفكار
أما بعد!
الديوان "عزف على أوتار الروح" من اصدار دار الحديث، التي يشرف عليها ويرعاها الشاعر الأديب فهيم أبو ركن، والغلاف المتميز بلمسات ابداعية من تصميم الفنانة ميساء أبو ركن. يهدي الشاعر عطاءه الى كل من يكافىء الحسَن بالحسَن ولا يخون خبز وملح الوطن. أما التقديم فهو للدكتور الناقد بطرس دله، والذي يذكر فيها أن شفيق يكتب القصيدة بعيدا عن أوزان الخليل بن أحمد وقوافيه، إلا انه يملك ناصية الكلمة الجميلة فيسترسل في أجمل المعاني والتراكيب البلاغية شعرا هو أقرب الى النثر منه الى الشعر. ويضيف أن شاعرنا يحلق في سماء الكلمة مموسقا أبياته بموسيقى عذبة كما السيمفونيات الرائعة!
وفي تظهير الكتاب، كتب الشاعر فهيم أبو ركن :"المتتبع لشعر قبلان يلاحظ في هذا الديوان قفزة نوعية في أسلوب التعبير والمستوى الفني.." وأنا –أعوذ بالله من كلمة أنا- أوافق على هذا الطرح، وللصراحة أقول بأنني تابعت وقرأت بعض ما أصدره الشاعر في الماضي، فلم تستوقفني أشعاره كما فعل هذا الديوان المميز، ربما لأن الأيام فعلت شأنها، فانصهر جليد كلماته ليتحول من صلابة واحكام بناء الى عذوبة رقراقة فاضت بها قريحة شاعرنا، ولهذا تفاعلت مع جريانه وقررت أن أسلط بعض أضواء استعراضية على ما جاء فيه، كما هي عادتي مع أعمال لشعراء وأدباء ومبدعين كتبت عنهم تحت عنوان أضواء استعراضية، بعد أن هزت أعمالهم الأدبية أعصاب قلم فكري. وباعتقادي –كقارىء مستعرض، وليس كناقد، لأنني لا أدعي النقد في هذا الباب- فان العمل الابداعي الذي يحرك في المستقبلين مشاعر وأحاسيس وتفاعل، هو مقياس ودليل على نجاحه!
وبعد!
يطرق الشاعر أبو شادي في ديوانه أبواب مواضيع انسانية، وقضايا وطنية متغزلا بمسقط رأسه في جيله الحالي، بيت جن ومن بين ما يقول:
يا قرية اسمك من ذهب
أهلك فيهم ثورة اللهب
لو حلَّ فيك ظالم
أو غاصبُ ولائمُ
تثور فيك همّة الشباب
كالأسُد الغِضاب
لا يرتضون القهرَ والعتابْ
وفي قصيدة أخرى بعنوان "يا بيت جن" يقول:
يا بيت جن أنتِ الهدى أمل
فيكِ الشباب وفيكِ الكدّ والعمل
الى العلا أنت تختالين في شَمَم
وفي الربيع عليكِ تجمُلُ الحُللُ..
واذا استطلعنا معا سرّ العلاقة المميزة بين أدباء ومبدعي بيت جن معها، كذلك شعراء ومبدعين من خارج بيت جن، فاننا سنصل بالطبع الى عظمة هذه القرية وكرمها وعطائها للجيران والأهل في أحلك الظروف، ولكل من يريد أن يتوسع للاطلاع على تاريخها المضيء يمكنه أن يراجع مؤلف الدكتور شكري عرّاف لمسات وفاء...و... كذلك كتاب بيت جن عبر التاريخ للأستاذ مالك صلالحه وأعمال الأديب محمد نفاع وغيرها من مؤلفات. وجيل شفيق قبلان ورفاقه، واكبوا تاريخ بيت جن الحافل بالكرم والكرامة، حيث فتحت أبوابها لاستقبال كل مظلوم ولاجىء وطالب حمى ومنفي عن بلده، ولذلك لا غرابة أن يكون في بيت جن أكثر من ستين حمولة، عدا عن العائلات التي اختفى ذكرها، وهذا يثبت ما جاء أعلاه، وبما أن الشاعر قبلان يعي هذه الحقائق ويتألم بسبب ما يراه ويلاحظه من انحلال قيم وتناسي البعض لأفضال بيت جن عليهم، ولكي يحمي بلدنا من سوء السمعة وتدهور الأخلاق يقول في قصيدة السنبلة المعطاء:
معذرة يا أخوتي
لم تزهر الأغصان في الربيع
وعدتكم بالتين والزبيب
ولست كاذبة
لكنها قوفلي هزيلة!
معذرة فالورد ذابلٌ لا يلوب
والحقل ضامرٌ سليب
والطير جائع غريب
والسنبلة العجيبة من حقل جدتي
قد نثرت حنينها هناك...
وأخيرا ليس آخرا!
أقتبس مما كتبه الشاعر سلمان خليل دغش، في مقدمة ديوان "الأفق الذهبي" لشفيق قبلان والذي صدر عام 2004:"للشاعر شفيق قبلان إرادة في صياغة الكلمة تنبع من وجدان مرهف، وقد استمد الكثير مما حوله من أشذاء حيدر وأزهار الجرمق وغيرهما من الأطوار التي تدل على مدى صمودنا في هذه البقعة الخضراء من وطننا الغالي..."
شكرا للصديق شفيق على نسختي من الديوان، والى عطاء يفوق ما أعطيت، وتذكّر دائما، أن لا قوة في العالم يمكنها الوقوف أمام فكرة آن أوانها!