ألا بذكر الله، تطمئن القلوب
بقلم : منير فرّو
قال تعالى: " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة"، وفي أية أخرى قال تعالى:" ولا تقتلوا أنفسكم ا ن الله كان بكم رحيما" صدق الله العظيم .
نظرا لما نشاهده ونلمسه في الآونة الأخيرة من انتشار ظاهرة تقلق البال وهي ظاهرة الانتحار، خاصة في أوساط الشباب، وهي أن يقوم الشخص بإيذاء نفسه، وبالتالي يضع حدا لحياته ليفارق الحياة، مخلفا ورائه الحسرات وقلوبا محترقة وعيونا دامعة وذاكرة لا تنمحي وأسئلة محيرة، ما هي الأسباب التي دفعت به ليقوم بهذا الفعل الخسيس والدنيء ؟ وهي قتل نفس حرم الله قتلها ، ووعد كل من يفعل ذلك بإنزال أقصى العقوبة عليه في الآخرة، وهي نار جهنم التي لا مفر منها ولا مهرب، يتقلب في النار على أجنابه فيحترق فيها وهو حي، فيبقى يحترق ويشتعل دون أن يموت حتى يدرك عظمة هذا الفعل، لقد قال تعالى : " ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم لعلكم تعقلون "، فالقتل لا يقدم عليه إلا من كان كافرا بالله ورسوله واليوم الآخر، لان القلب يجب أن يسعى إلى الاطمئنان بالإيمان برب العزة والجبروت وصاحب القدرة والملكوت وباعث الحياة والموت، وعلى الإنسان أن يعمل بفكره ولبه إلى الوصول إلى هذا الشرف العظيم، وهو الإيمان بالخالق ورسله ويوم الأخر، والعمل على كل ما يرضي الله ورسوله، فالإنسان عندما يبتعد عن الله فإنه يسلّم نفسه للشيطان، والشيطان يخوّف أولياءه ويحزنهم ويقودهم إلى المشاكل النفسية التي لا علاج لها إلا بالعودة إلى الله.
ما من شك أن الحياة فيها أعباء ثقيلة، لذلك هي دار الهموم والأحزان، وعلى الإنسان أن يتحدى هذه الهموم بالصبر والإيمان والسؤال لمن خصه بالهدى والمعرفة، ويروّح عن نفسه ويبعد عنه الشيطان وما يوسوسه له، فينجو من الخذلان ويبتعد عن اتخاذ خطوة مصيرية تجعله من الخسران، يوم الوقوف بين يدي المليك الديان.
إن تعريف كلمة الانتحار، الكلمة التي تهتز وتقشعر لها الأبدان، ويتلجلج بنطقها اللسان، والتي كثيرا ما يفسرها علماء النفس على أنها ظاهرة، متجاهلين أن الانتحار معناه الكفر بالله عز وجل، فالانتحار هو التصرف المتعمد من قبل شخص ما لإنهاء حياته. ويرى آخرون أنه قتل النفس تخلصا من الحياة، وقد اختلفت الآراء حول الانتحار، هل يعكس شجاعة الشخص المنتحر؟ أم جبنه؟ وانعكاس لفشله وعدم الحاجة لاستمرار حياته ؟ والانتحار مهما يكن فهو أعلى درجة في درجات الظلم وما اعز على الإنسان إلا نفسه، فمن أراد بها سوء فهو أحرى بان يجور على العالمين، كما قال تعالى : "من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنّما قتل النّاس جميعاً ومن أحياها فكأنّما أحيا النّاس جميعاً" ، " إن الله لا يهدي القوم الظالمين".
إذ ًا الانتحار معناه أن يقوم الفرد بقتل نفسه عمدا وذاتيا، وأكثر الطرق شيوعا هي الشنق ثم القتل بالسلاح الناري أو إلقاء الإنسان نفسه من مكان مرتفع أو شرب السم أو تناول حبوب دواء كثيرة وغيرها من الطرق الغير مشرفة، وهذا من ضعف النفس واستيلاء الشيطان على المنتحر حتى يصرعه كما يصرع الحيوان المفترس فريسته مستغلا ضعفها .
والانتحار له دوافع وأسباب كثيرة، تنطلق أساسا من كفر الإنسان بربه وعدم الصبر والرضا على قضائه والانغماس بحب الدنيا ، مما يعمي البصر والبصيرة، ويجعل الإنسان يعيش في حيرة، فمنها الاقتصادية ومنها الاجتماعية ومنها العاطفية وأيضا أسباب نفسية وعصبية والتي تؤدي بالإنسان إلى اضطرابات عقلية تدفع به إلى الانتحار، كما أن تعاطي المخدرات والمواد المسكرة سبب من هذه الأسباب وكل هذه الأسباب لعدم انصياع الإنسان لأوامر الدين وابتعاده عن الحق اليقين لان الدين في الحقيقة هو الحل لكل معاناة البشر الاقتصادية كالنهي عن التبذير والزهد في الدنيا واقتناء ما يستر العورة ويسد الجوع وروي الضمأ والاجتماعية كمؤازرة الناس وقضاء حوائجهم وغيرها والنفسية في ارتياض النفس واتحادها بعلوم الدين لتتطهر وتتخلص من أفكار السوء والشرور السبعة القتل والزنا والفسق والغش والسرقة والرغبة والحمق وهي الفواحش الظاهرة التي قال عنها تعالى : " ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن" والتي قال عنها يسوع في الإنجيل الطاهر : " ليس ما يدخل الفم ينجس الإنسان بل ما يخرج من الفم هذا ينجس الإنسان ثم فسر ذلك بقوله : بعد أن كل ما يدخل الفم يمضي إلى الجوف ويندفع إلى المخرج ، وأما ما يخرج من الفم فمن القلب يصدر ، وذاك ينجس الإنسان ، لأن من القلب تخرج أفكار شريرة قتل زنى فسق سرقة شهادة زور تجديف ، هذه هي التي تنجس الإنسان وأما الأكل بأيد غير مغسولة فلا ينجس الإنسان ".
وظاهرة الانتحار موجودة منذ بدء الخليقة، لكن هذه الظاهرة ازدادت بشكل ملحوظ خلال العقدين الماضيين بين أوساط المجتمع وخاصة الشباب وذلك بسبب ابتعادهم عن القيم والعادات والتقاليد الضابطة لأخلاقهم وتصرفاتهم ودخولهم عالم الحرية المضللة وانزلاقهم في عالم المحذورات وإباحة المحرمات واتباع الشهوات دون رادع ديني، ثم الميل إلى الطيش والنزاقة وغلبة الجهل والأهواء الدنيوية والرفاهية والبذخ والراحة والإباحة وعالم الغرام الغير شريف حيث لم يعد يشعر الانسان المتحضر بالقلة والفقر ويجد كل شيء متوفرا حواليه فيمل من الحياة، وهذا كله يعود إلى انتشار العلمانية والرأسمالية الفاسدتين ودعوة الناس إلى الانكباب على الدنيا ونزع فكرة الإيمان بالخالق من قلوبهم وغمسهم في الشهوات واباحة المحرمات،
لذلك نرى ظاهرة الانتحار تنتشر في المجتمعات التي ابتعدت عن الدين وقيمه وآدابه، ودخلت إلى متيهة الحيرة، وهي تنتشر في البلاد المتحضرة كالغرب أكثر من غيرها من دول الشرق ،وحسب تقرير قدمته منظمة الصحة العالمية فأن مليون وستمائة ألف شخص يقتلون سنوياً بطرق عنيفة، نصفهم عن طريق الانتحار.
إن انتشار ظاهرة الانتحار في وسطنا العربي عامة والدرزي خاصة، فهو أمر خطير ومقلق جدا، خاصة وأننا نرى في السنوات الأخيرة ازدياد هذه الظاهرة في وسطنا الدرزي، وعلينا جميعا تقع المسؤولية في كبح هذه الظاهرة المتفشية، قبل أن تصبح عادة مألوفة يصبح قلعها صعبا مستصعبا.
والانتحار مهما تكن أسبابه فهو حرام بتحريم الخالق جل وعلا في الأديان جميعها، وفاعله مغضوب عليه وعذابه جهنم وبئس المصير، كما قال تعالى في القرآن :"وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا . وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا" (النساء:29-30), وكقول النبي صلى الله عليه وسلم: "وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"
فالانتحار يجب عدم التهاون معه والترخيص به، وعدم فسح المجال لأي شخص أن يستسيغه لنفسه، ويجعله سببا لراحته، بل بالعكس هو سبب لشقاوته في آخرته وخلوده في النار وعدم إطلاق الرحمة على جثمانه وعدم الصلاة عليه والسير في جنازته، لان " قاتل نفسه أو كفه لا رحم"، لان الانتحار هو القتل بحد ذاته والقتل هو من كبائر الذنوب العظام التي حرمها تعالى في كل الكتب المنزلة، والتوبة عن القتل تحتاج إلى مشقة وتوبة واستغفار حتى يغفر الله لفاعله، هذا في حال قتل شخص شخصا آخر، بينما في حال الانتحار فالمنتحر قد فارق الحياة، ولم يطلب المغفرة ولم يركن إلى رحمة الله التي وسعت كل شيء، لذلك القتل لا يستحسنه احد إلا أن يكون كافرا بالله، مشركا به غيره ، ناكرا وجوده، قد استحل ما حرمه عليه، وتعدى حدود الله، " ومن تعدى حدود الله فقد ظلم نفسه" .
فيجب أن يعرف كل فرد منا، صغيرا كان أم كبيرا، ذكرا كان أم أنثى، أن الانتحار هو نابع:
أولا من عدم الإيمان بالخالق تعالى، الذي هو رأسمال الإنسان في الدنيا والآخرة، لقوله عز وجل : " ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا " (طه:124)،
ثانيا عن الانغماس في المعاصي، لأنه مع كثرة عصيان الله يضيِّق اللهُ تعالى صدرَ العاصي, وتضيق به الحياة, ويفكِّر في الانتحار مهما كان يعيش عيشة رغدة،
ثالثا اليأس من رحمة الله، لان نتيجة البُعد عن الله، فإنه ييأس من أن ينشرح صدره, ويظن أن عُسره ليس بعده يُسر, ويكون ناسيا قوله تعالى في الكتاب المبين : "وَلا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله الا القوم الكافرون " (يوسف:87).
رابعا عدم الرضا بقضاء الله، وهذا من أهم أسباب الانتحار؛ لأن المنتحر لا يكون حاله كحال المؤمن الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم عنه: " عجبا لأمر المؤمن إن امره كله خير وليس ذاك لأحد الا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له".
خامسا سوء التربية وذلك يعود إلى إهمال الأهل في مسؤولية تربية الأطفال والتقصير في غرس معاني الإيمان والدين في قلوبهم وبث الخوف من الله فالأولاد أمانة من عند الله يستودعها عند الأهل ويطالبهم يها يوم القيامة فلا يعودوهم الترف والبذخ والتبذير فيبطروا ولا يعودوا يسمعوا إلى كلامهم مما يجعلهم يعاقبون الأهل بقتل نفوسهم .
سادمسا الجزع عند أدنى مصيبة، لان المُنتحر ليس عنده صبر على البلاء، ثم جهل العاقبة فيظن المنتحر بسبب الضيق الذي يشعر به في الدنيا أنه بذلك سوف يرتاح, وينتهي نَصبُه، والحقيقة المُرَّة أنَّ ما سيلقاه بعد الانتحار من العذاب أضعاف ما كان يعانيه؛ لقوله تعالى: " ولعذاب الاخرة أشد وأبقى " (طه:127) .
سابعا ا التعلـُّق الشديد بالدنيا، فإذا فتحتَ عقولهم وقرأتَ ما فيها؛ لن تجد إلا دنيا, لن تقرأ إلا البحث عن وظيفة, أو طريقة لزيادة المال, أو امرأة يتعلق بها... إلى ما لا نهاية من الشهوات, فإذا فقد هدفه الدنيوي هذا الذي يعيش من أجله؛ فسرعان ما يفكر في الانتحار,
ثامنا تكليف النفس الحصول على الكماليات وهي آفة عامة في المجتمع، فيحاول الشاب أو الفتاة أن يلبس ملابس ثمنها أضعاف راتبه، فيضطر إلى الاستدانة ليلبس، أو شرائها بالتقسيط، وكلاهما دين، وقِسْ على ذلك في كافة مناحي الحياة عند الزواج، وعند شراء تليفون محمول، وعند شراء سيارة، ومسكن... يكلـِّف نفسه أكثر من حاجاته الأساسية، وأكثر من إمكانياته المادية، فإذا بالديون تلاحقه مما يجد الانتحار الوسيلة للخلاص من هذه الملاحقة.
تاسعا الإعلام الفاسد، ففي الأفلام يمثل لك قصة حب محرمة بين رجل وامرأة، وعند فشلها تلجأ المرأة إلى الانتحار، ويلجأ الرجل إلى شرب الخمور، أو الانتحار أيضًا، فيؤثر ذلك في النشء، ويرسخ هذا المعنى عندهم، وخصوصًا مع المؤثرات النفسية التي تـُستعمل في هذه الأفلام، ومن هنا نرى أطفالا تقوم بتطبيق ما يشاهدونه في الأفلام الفاسدة والعاب الانترنيت فينتحرون دون أن يعرفوا أنهم سيموتون لان الطفل لا يفكر بالموت ولا يعتقد بأنه سيموت لعدم إدراكه مصطلحات الحياة .
عاشرا قانون الدولة فدول اليوم خاصة التي تخضع لنظام الديمقراطية وحرية الرأي والفرد والمؤسسات بفصل الدين عن الدولة جعلت من الإنسان يتحرر من القيود الدينية والأسرية والاجتماعية والمبادئ وتدخلت في الأسرة فمست هيبة الرجل وسيادته في البيت على الزوجة والولد حتى جعلت من المرأة اليد العليا خلافا لقوله تعالى : " الرجال قوامون على النساء " وأيضا عاقبت الأب الذي يضرب ابنه ليعود إلى رشده ويمتنع مثلا عن التدخين أو السرقة أو الأخلاق البذيئة اعتبار ذلك عنفا فصار بامكان الزوجة والولد زج الأب في السجن بادعاء انه يستعمل العنف ضدهم وهذه إحدى أسباب انتحار الآباء لشعورهم بالاهانة وفقدان مسؤولية الأبوة، وأيضا منعت المعلم من صلاحية التعليم وفرض هيبته على الطالب والمعلم هو المربي الأول الذي يخاف الولد سطوته أكثر من الأب والذي أصبح بسبب هذه القوانين مهزلة للطالب وفقد هيبته وصار أيضا بإمكان الطالب أن يزج المعلم في السجن ويطرده من مهنة التعليم بمجرد ضربه ليجعله يتعلم .
وأخيرا أقول لأولئك الذين يفكرون بالانتحار إياكم أن تدعوا الأوهام تسيطر على عقولكم، فجميع ما تفكرون به هو مجرد أوهام، ومس من عمل الشيطان، يستحوذ به على الإنسان،ولا تيئسوا، أ و تظنوا أنكم لوحدكم في هذا العالم تعانون المشاكل المختلفة، فالحياة دون صعوبات تفقد حلاوتها، والناس جميعهم يعانون من نفس المشاكل فهل جميعهم يجب أن ينتحروا ؟ وأيضا لا تقنعوا أنفسكم بأن ثم أحد في الوجود يكرهكم أو لا يحترمكم فهذا وهم قاتل وليس حقيقة ،فالنفس البشرية واحدة وتفكيرها واحد، وتمر في نفس الظروف، وعلى الإنسان أن يستعين بالله وخلقه في حل كل ما يصادفه من مشاكل، أو أفكار سوء، لقوله تعالى : " وما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة "، لذلك اعلموا أيها القادمون على أصعب اللحظات المصيرية وأقساها عليكم وعلى من حولكم وابغضها عند الخالق والمخلوقين، إن الحياة هبة من الله يجب استثمارها واستغلالها بعمل أشياء تعود على الإنسان والمجتمع ككل بالنفع والفائدة، كما القناعة والاكتفاء بما هو موجود على ارض الواقع، وتعلم كيفية التعامل والتكيف مع ظروف الحياة المختلفة، والصبر على المحن وتجاوز الأزمات، كل ذلك يقودنا إلى نتيجة واحدة وهي أن الله قد قدر كل شيء لنا ومنحنا حرية الاختيار،ولا يمكن للإنسان أن يغير مشيئة الله مهما حاول، والانتحار هو وسيلة الفاشلين والمهزومين في مواجهة الظروف الصعبة، وتذكروا جيدا أن الذي يضع حدا لحياته قد اسخط أبويه وبالتالي خالقه لان رضا الله من رضا الوالدين، وغضبه من غضبهم ،وانه قد خسر دنياه وأخراه وكتب على نفسه شقاء ابدي سرمدي لا يمكنه الخروج منه إلى أن يشاء الله .