بقلم : كميل شحادة - الرامة
ما جرى ويجري في الواقع من جهالات وتعقيدات إزاء المعتقدات الدينية ، وإزاء كثرة التفسيرات والتأويلات والاجتهادات والإفتاءات ، والمسالك والمذاهب ، وما يعج فيها وبينها من تناقضات .. إلخ يبعد طلاب الحقيقة وينفرهم ، خصوصًا مع عدم صلاحية ،وعدم إمكانية السعي بكثير من تلك الأفكار والتوجهات والقيم الموروثة والمكتسبة ، مع تطور الحياة الاجتماعية ،المرتبطة ضرورة بتطور أساليب العيش وقيمه ومقوماته المتغيرة على الدوام ، حيث كثير من تلك الأفكار والتقاليد والمفاهيم أصبح سطحيًا صبيانيًا مبتذلا ً ، بعد أن أفرغت حيثيات التطور مضامينه ومعانيه، ونحن في زمن التنافس العلمي والتسابق على امتلاك القوة للسيطرة على البيئة وعلى مصادر العيش والطاقة ، وذلك يجري قوميًا ، دوليًا ، إقليميًا ، وفرديًا على حد سواء .. مع كل ذلك .. أو إلى جانب كل ذلك يحاول البعض من جميع أتباع الديانات تأدية دورهم في العمل على إنقاذ إخوانهم ، بعد أن حولتهم المدنية الحديثة إلى مجرد آلات تتحكم بهم سلسلة من آلات ضمن نظام آلي عالمي ، لا يملك المرء لنفسه فيه سوى التسليم والخضوع بما تفرضه عليه من أفكار ورغبات ومسالك ، وحيث تبدو أية محاولة للتمرد في سبيل التحرر ،محكومة بالفشل والسقوط ، وقد أضحى الإنسان أسير الآلة التي اخترعها حتى باتت تخلقه على صورتها وشاكلتها في تصرفاته وتوجهاته .. لقد خلت حياة الإنسان من الراحة ومن الطمأنينة التي حدثتنا عنها المعتقدات الدينية ، وانعدمت اللطافة والشفافية الروحانية ، وفقدنا الملكات التأملية الباطنية التي تنبع من القدرة على الاستقلال الذاتي الداخلي،فتذكي طاقة الروح الاستبصارية والإدراكية ، التي هي فقط وحدها تستطيع أن ترى الحقائق باطنها وظاهرها ، وهي وحدها تستطيع أن تميز بينها ، وهي وحدها تستطيع أن تملك الإرادة الذاتية للإنسان وتوجهه وسط أدغال الإسمنت والحديد والزجاج والإسفلت و " الديمقراطيات " التي يتمزق داخلها جسمًا وروحًا، بأنياب المصالح والمنافع الرأسمالية والبراغماتيكية ، التي تقدم الإنسان وكل ما هو مقدس، قرابين على مذابح أنانياتها الحقيرة .. يحاول الغيورين من أتباع مختلف المذاهب عمل شيء ، كذلك بعض الحركات والمنظمات المدنية (الخضراء) والاجتماعية وسواها، تسعى لإنقاذ الإنسان وإنقاذ الحياة على الأرض من الكوارث السلوكية والبيئية ، جراء انفلات طاقات التطور الهدامة من بين أيدي الإنسان الذي اكتشفها واخترعها ليتحكم بها لا لتتحكم به ، ولتسعده وتحرره لا لتشقيه وتستعبده ، غير ان محاولات الإصلاح والإنقاذ من قبل هؤلاء غير مجدية ، لأن فكرة إصلاح العالم وتخليص البشر لم تكن واقعية في أفضل الظروف التاريخية فكيف اليوم .. اليوم – على الأقل – يتحتم التوجه إلى إيجاد فكر ديني يحفظ للجميع كرامتهم ،بنظر جديد، مع الأخذ بجوهر جميع المعتقدات الدينية ، خصوصًا بعد ظهور الحركات المتطرفة التي تحرق اليابس والأخضر ، وترتكب الفظائع في القريب قبل الغريب ، باسم الدين ، وبغض الطرف عن الظروف والأزمات التي نمر فيها،والتي تجعل هذا الطرح يبدو ساذجًا، في كل الأحوال ، يجب العمل على إحياء الفطرة السليمة الإنسانية البسيطة في جميع البشر،لا بالعودة إلى طروحات المذاهب الدينية بتعقيداتها وتشديداتها وتناقضاتها التكفيرية والتلحيدية والترديدية إلخ .. بل بأخذ الجوهر منها جميعًا وهو وجود الله ، مهما اختلف النظر حول الاعتقاد في وجوده ، المهم ان جميع المؤمنين يقرون بوجوده ، فجوهر العلاقة بالله واحدة ،ويجب ان تكون إيجابية وخيّرة أسوة للجميع،وإن اختلفت التوجهات لقمة هرم الوجود والموجودات .. اننا اليوم بحاجة إلى دين واحد عالمي للجميع ، يحمي الجميع من بعضهم البعض ، من تناقضاتهم واختلافاتهم العميقة التي هي مكمن أسباب الكراهية بينهم ، وهي مكمن أسباب صراعاتهم وحروبهم ضد بعضهم البعض ..انه في كل الأحوال دين جميع الأنبياء والرسل والأولياء والحكماء، الصالحين الصادقين ، وليس ديانات أتباعهم الذين حرّفوا وانحرفوا بالرسالة عن جوهرها الواحد النقي السليم .. إننا بحاجة اليوم إلى إعادة كشف علاقتنا بالله روحيًا وماديًا طبيعيًا على السواء ،حيث هو"الأول والآخر والظاهر والباطن" وهوالسماوي وابن الإنسان في آن . ألم يأت في القرآن الكريم انه " نور السماوات والأرض"، ثم ألم يقل السيد المسيح عليه السلام : أنا فيكم وأنتم فيّ ، ومهما فعلتم بإخوتي الصغارهؤلاء ، فيّ أنا فعلتموه .. وهل تجد أكثر إنسانية وليبرالية من قول محمد عليه الصلاة والسلام : ولهدم الكعبة أهون عند الله من إهانة مسلم " وغير ذلك ما لا يتسع له المقام، تجده في جميع الأديان السماوية وغيرها ..أجل يجب إعادة كشف علاقتنا بالله المطلق ، مصدر الحياة والوجود وغايته،من دون الرجوع للتفسير والتأويل اللامتناهي في ذلك ، بل بالرجوع للقطب الحرم داخل كل منا ، الذي هو الروح فينا كقبس من مصدر أزلي واحد ..انه لا يمكن لإنسان تصور فكرة أعظم من فكرة وجود الله في حياة البشر وفي تاريخهم .. لقد برزت أفكار كثيرة وفلسفات ونظريات كثيرة ، تجريدية وتطبيقية ، لم تصمد أمام حاجات الإنسان النفسية والروحية والوجودية ، وسقطت عند الهزات العميقة الأليمة في ظروف حياتهم الصعبة كأوراق الخريف . ان فكرة وجود الله وحدها تستطيع امتصاص مشاعر القلق والخوف ، وهي وحدها تحمي الضمير من وحوش التطور ووحشيته ، وتؤمّن الملجأ للأفكار الضالة والمشاعر التائهة .. أما أولئك الذين لا يكتفون بالإيمان وحده ، فممارسة الرياضة التأملية الروحية تلطف وترفع الطاقة النفسية والعقلية ، وتحول العلاقة بالله من الإيمان العاطفي الفكري الرمزي المجرد إلى تجربة كشف واتصال روحي باطني عميق شفاف . بعد ذلك يظهر كل شيء منتظم في مكانه ، دون القيام بمجهودات خاصة محالية لإصلاح العالم وتغييره ، كما يحاول المفكرون والسياسيون والاقتصاديون والإداريون وسواهم في كل المجالات..
قد يقول قائل : هناك فريق كبير من البشر لا يؤمن أصلا ً بأي صورة من صور الاعتقاد بوجود الله ،لأن فكرة وجوده تأبى الدخول في العلاقات المنطقية الإرادية للإنسان ،من وجهة نظرهم ، فهل بالضرورة يقوم الصراع مع هؤلاء ..أولا ً اننا في الواقع نشهد ان الصراع في الماضي والحاضر،قام ويقوم بالذات فيما بين المؤمنين أكثر بكثير من قيامه بين المؤمنين والملحدين ، ثانيًا ليس الإيمان هو الغاية ، بل ما يحمله من بذور كشف وتحقيق يؤديان لأن نعي ان (الصورة وظلالها لنفس الرسام)وهكذا يسقط الصراع بحكم العلاقة الاستنارية والليبرالية بالله، باعتباره حريتنا المطلقة في النهاية ، وليس كائنا ً منفصلا ً عنا في كل ما نتجه إليه ويمثل الطموح الدائم والشوق الدائم للكمال وللخلود في اللامتناهي ، وهذا يتجلى ويبرز في الرمز الديني والفني والعلمي ، وفي كل ما يتخذ صفة إطلاقية ويعبرعن النزعة الطبيعية للاستمرار إلى ما بعد الموت .. ويبقى ان قانون العقل والعدل، الفعل ورد الفعل، هو الذي يحكم الكل في جدلية العيش الواحد في هذا العالم .
كميل شحادة - الرامة