الشاعر تركي عامر
لا أحد من الأدباء إلا ويطمح أن يكون مقروؤه ملفتا ، وفي هذه المسألة استطاع الشاعر المبدع تركي عامر أن يحصد نجاحا جيدا ، فقد قدّم من فنه وعصارة فكره المئات من النماذج الشعرية ، وعلى مدار سنوات طوال . حقيقة قلّما حظيتُ بندوة أدبية شارك فيها تركي إلا وكان محط إهتمام الجمهور ، بحداثة أشعاره ، وطريقة إلقائه المميزة تحث على الإصغاء والإعجاب . وهذه إحدى المقومات اللازمة للقصيدة المسموعة والمقروءة ، أن تشد الإنتباه وتحرك الشعور ، وإلا ما معنى أن نصاب بالضجر ؛ فتسقط القصيدة تلقائيا بدون نقد وبدون تفاصيل .
ليست كل أشعار تركي تنسحب عليها صفة الإبداع ، وهذا حال الشعراء على مر الزمن ليسوا دائما بمنأى عن الأرض اليباب . ومع ذلك لا أزعم أنني التقيت بقصيدة لتركي قد سقطت ، إنما هو شيطان الشعر يترنح هنا أو هناك ، كما في قصيدة " فسد الصيام " كمثال ، يقصد صيام العرب عن التوحد والنضال . وقد امتلأت أوراقنا بمثل هذا الطرح ؛ إذا لا جديد ! .
بينما ـــ كمثال أيضا ـــ وثب شيطان الشعر وثبة رائعة في قصيدة " رأيت الروح " ألفاظ حرة طليقة نتفاعل معها ذهنا وحسا ،القاها في مناسبة ثقافية في الجليل .
أمّا النقطة التي تشغلني في هذا السياق ، إحساس يراودني في بعض أشعار تركي ، وكأنني أسمع رجلا آليا يتحدث إليّ ، وليس كيانا تحركه العاطفة والروح ، وقد أطل عليّ هذا " الرجل " آخر مرّة من كوّة " أبالسة السماء " ، وهي قصيدة طويلة لتركي ، أطول من معلقة زهير ، أربعة وسبعون بيتا من البحر الوافر ، وهي مكرسة للغة العربية ، وما في اللغة من ثراء وجوهر. وإن كان من صفات المعلقة طول الأبيات وتعدد الأغراض ، فقصيدة تركي تتمتع بالطول والوحدة العضوية ، لذلك يجوز أن نسمّيها نصف معلقة ، ويمكن أن نخرج عن القانون ــ راغبين ــ ونعتبرها معلقة .
هذه المعلقة من ناحية لغوية وعروض سليمة بامتياز ، وهذا هو الجزء الإبداعي فيها ، باعتبار أن من شروط الإبداع إجادة اللغة ، أمّا باقي الأجزاء باستثناء بعض الأبيات فهي شبه جافة خالية من الإحساس ؛ حتى لتخال وكأن آلة معدنية ترن في دماغك وتأمرك بالقبول ! . ولا تجد سبيلا للرفض لأننا بحاجة لمن يهتم باللغة ، في مناخ تفشي الأخطاء أدبا وإعلاما . بيد أنني تمنيت لو أجد في هذه القصيدة طفرة تغني عن جيوش الكلام ، كما فعل حافظ إبراهيم في رائعته عن اللغة .
" أنا البحر في أحشائه الدّر كامن فهل ساءلوا الغواص عن صدفاته "
فاروق شوشة كان يستخدم هذا البيت في مستهل برنامجه الإذاعي " لغتنا الجميلة " .
هذا البيت لوحده يختزل ربما كل ما قيل في اللغة ، وهو لجماله وعمقه وتأثيره في النفس ، يحفز على الحفظ ، ويتلذذ به سماعا حتى من لا يعرف اللغة . لي صديق في العقبه " عمر بدير " يملك قاربا بسيطا للصيد ، وقد كتب هذا البيت على قاربه بيد خطّاط ، علما أن ذلك الصديق ثقافته محدودة ولا يعرف ما يعنيه البيت .
هذا هو السر الذي يكمن في الشعر ؛ لذلك نرى شعرا يعيش ويفرّخ ، وشعرا يعتمد في بقائه على الحظ !
ومع ذلك ليست ملاحظاتي انتقاصا لقصيدة تركي عامر ، إنما هي الموضوعية في النقد تستدعي توضيح ما للشاعر وما عليه . وانني أقدر الجهد الذي بذله في هذه القصيدة التي تحقق ولا شك فائدة في إطار تعاملنا مع اللغة .
نور عامر - ناقد وقاص – الجليل