من المعلوم أن القصة القصيرة تنقسم الى نوعين ، التحليلية الفنية ، والعادية أو العامة .
وهذه الأخيرة ليست أقل شأنا من التحليلية ، بل لها جمهور أوسع بكثير ، هذا إذا صيغت
بيد فنان يعرف كيف يملأ موضوعه بعناصر التشويق ويطوره . كما فعل الكاتب زكي
درويش في مجموعته القصصية " ثلاثة أيام " .
القصة الأولى " العشاء الأخير " هي حدث عادي لأسرة مترابطة متفاهمة تمر بوضع
غير مريح ، وعبر دراما عاطفية مثيرة . والدراما هي روح القصة . برأي " موباسان "
أحد روّاد القصة المشهورين .
اذا أخذنا بمفهوم " هيغل " : أن الفن هو تعبير عن حركة الحياة وانفعالات النفس الداخلية .
فهذه القصة هي فنية بامتياز ، حيث نلمس بوضوح هذه الحركة وهذه الإنفعالات ، معلنة
وصامتة في مناخ الأسرة القلق المتوتر . ولعل بعض فنية هذه القصة مستمدة ايضا من
الطبيعة المساهمة في الحدث ، وبالّلون الذي ينسجم معه ؛ الخريف ، أوراق الكرمة
المتساقطة ، شجيرات الورد ذابلة ، والمكان يغمره " ظلام كثيف " .
تنتهي القصة عند هذه النقطة ، وبطريقة ما يعرف بالنهايات المفتوحة للقصص . ونهاية
كهذه تفتح شهية المتلقي للإستزادة ؛ يتصوّر أو يتوقع ماذا سيحدث بعد ئذ ؟! وبذلك
" يساهم " في كتابة القصة .
ذهب الكاتب الإنكليزي " ويلز " أن القصة هي حكاية تجمع بين الحقيقة والخيال .
وهذا ما حققه زكي درويش في قصته " زهور بيضاء بلون الثلج " ، الشخصية والحافز
والحدث ، محاور رئيسة في هذه القصة التي تعكس التغييرات السلبية التي تطرأ في هذا
العصر على بنية العلاقات الإجتماعية .
يبرز أمامنا بطل القصة المسن بمظهره العام ، بأحواله الفكرية والنفسية والمرضيّة ، يواجه
واقعا اجتماعيا صعبا ، لكنه يتحمل ويصبر إلى أن تأتيه المفاجأة / الصدمة المذهلة . ينقطع
لديه كل رجاء بلقاء ولديه . وهنا تصل القصة الى ذروتها وتأخذ طريقها الى النهاية
المقفلة ،وبوتيرة سريعة ، حتى تلامس ما يسمّى " اللحظة المنيرة " ، وهي نقطة الضوء التي يتم فيها التركيز على النهاية . " وقد تتوقف القصة كلها أحيانا على الجملة الأخيرة التي تنتهي بها "
كما أفاد ناقد فرنسي . وقد كانت النهاية موفقة جدا ومؤثرة ، البطل يبتلع إحباطه بصمت ،
يحس أن لا جدوى من معاكسة الظروف ، يستسلم لواقعه بهدوء ، يستند الى السرير . ربما
يرمز السرير هنا الى نهاية المطاف . لعله الموت ؟ ! : " أغمض عينيه ،شعر أنه يطير
ويخترق شيئا أبيض لم يستطع تحديده تماما : هل كان ذلك ثلجا ؟ أم ريشا ؟ أم سحابا رقيقا
محمولا على أجنحة ريح خفيفة خفيفة " .
ودونك قصة " الوسيط " كيسنجر على طاولة المفاوضات . لو وُسِمَتْ هذه القصة على
انها مادة ساخرة ، لنظرنا اليها من زاوية اخرى.. لكنها قدمت كقصة ، وسنناقشهاعلى هذا الأساس .
أولا لغة القص متقطعة غير متصلة ، تسمع هنا وتختفي هناك . ثانيا نزول النص الى مستوى
التقرير في المقطعين الخامس والثامن . والقصة عموما بومضاتها السريعة لا تحتمل التفصيل
والتقرير . ثالثا الحضور المكثف للكاتب يرسم ويخطط . ومثل هذا الحضور مطلوب فقط حين
تصاغ القصة بضمير المتكلم . وهي ليست كذلك . كان من المفضل الغياب الطوعي للكاتب
. يقال ان رواية كافكا " الجحر " استمدت بعض قوتها من عزلة المؤلف . رابعا والاهم ،
لم يأخذ الكاتب من الشخصية المحورية " الوسيط " سوى الجانب السياسي / الدبلوماسي ،
وترك باقي الأبعاد المتعارف عليها فنيا للشخصية . مما تمخض عن حدوث الخلل في
الشخصية . وأي خلل يحدث في جزء من القصة ، يؤثر سلبا على القصة ككل!
الميزة الإيجابية الوحيدة في هذه القصة أنها طريفة ، تجعلنا نبتسم أو نضحك ، ثم ننسى الموضوع ! .
ثلاثة قصص بقيت في المجموعة وهي ذات وزن ادبي جيد ، وهي بأحداثها ، مواقفها ،
أزمتها ، تتراوح تقنية بين الحركات الساكنة ، المتحفزة ، والديناميكية ، كما يقتضي الحال
. والملفت في هذا السياق ان القصص تصقل وتهذب ، ثم تخرج بثوبها الجديد عن إطار
المألوف ، الى محيط الإهتمام ، وأحيانا الدهشة . مما يتيح لنا قراءة ممتعة ، مع كاتب
يتقن هذا الّلون الجميل ، اسلوبا وحسا ، تجربة وذوقا .