بقلم : زياد شليوط - شفاعمرو
أمثالنا الشعبية تحمل في طياتها المعاني المأثورة وحكمة الأجداد وخبرتهم، ومن تلك الأمثال التي كثيرا ما نرددها "العرس في دبورية وأهل ميعار بترقص"، دلالة على من يفرح لمناسبة لا علاقة له بها وبعيدة عنه، واذا كانت تعتبر المسافة بعيدة ما بين المجيدل وميعار في السابق، وهي لا تتعدى عشرات الكيلومترات، فان المسافات اليوم وان وصلت الى عشرات آلاف الكيلومترات لا تعتبر بعيدة بعدما غدا الكون قرية صغيرة.
أيعقل الذي يحدث في شفاعمرو وفي معظم قرانا العربية؟! ربما هو المعقول ولا معقول غيره، حتى أننا كذبنا الكذبة وصدقناها. قالوا أن هذه حالة من سد الفراغ ونتيجة للحالة الاجتماعية والاقتصادية التي نحياها، وأن الشباب يريدون أن يملأوا أوقاتهم بما هو مسل وممتع بعيدا عن الهم والغم؟ لكن حالة الهستيريا التي نراها كل ليلة تقريبا، ومع انتهاء كل مباراة، في خروج عشرات بل مئات الشبان يطوفون الشوارع في سياراتهم عند منتصف الليل، وهم يطلقون الصفارات والزعيق ويلوحون بالأعلام، تارة أعلام البرازيل ومرة أعلام ايطاليا وطورا أعلام الأرجنتين، وكأن كل اسم من تلك الأسماء لا يعود لدولة مستقلة لها علمها ونشيدها الوطني وجمهورها العريض الطويل، بل كأنها أسماء حارات أو شوارع في شفاعمرو أو في أي قرية من قرانا العربية، وكل سكان حي يتعصبون لفريق حيهم، أي حالة هذه؟!
أظن أن الحالة تعدت ما قيل عنها، ويجدر النظر إليها كحالة هستيرية رسمية، أو حالة جنون الوعي، أو وعي الجنون كما تفلسف ذات مرة "غوار الطوشة" عن أسباب الجنوح أو جنوح الأسباب، ويجب دراسة هذه الحالة الغريبة العجيبة تربويا واجتماعيا ونفسيا. ومع أني لست محللا اجتماعيا أو طبيبا نفسيا، لكني أظن أنها تقارب حالة المزج بين السادية والمازوشية، ففيها التعذيب الذاتي وتعذيب الآخر. فلماذا يجب التجمع عند ساحة باب الدير الى ما بعد منتصف الليل، في أجواء الضجيح والزعيق واقلاق راحة الناس الذين يحتاجون للراحة والنوم بسكينة وهدوء خاصة في ساعات الليل المتأخرة؟ ولماذا يجب أن يحتفل كل أهالي البلدة عنوة، السليم منهم والمريض، الكبير والصغير، المرأة والرجل، دون اعتبار لحالة أولئك الناس والشرائح الاجتماعية في ساعات الليل، وعليهم أن يحتملوا الضجيج وكأنه حالة فرح حقيقي؟ أليست هي حالة مرضية التي نحياها؟ أليست هي حالة هستيرية دون أي مبرر لها؟
ولماذا على الانسان الفرد أن يعذب ذاته ويخرج في ساعات الليل المتأخرة، ساعات الراحة الطبيعية، ويقلق نفسه ويرهقها بالزعيق والتصفير والهتاف لفريق لا علاقة تربطه بها، ولا قرابة بينه وبين أي من أفراده؟ ولماذا على الانسان أن يبذر من أمواله ثمن الأعلام التي لا تمس أي قيمة لديه، وثمنا لوقود يحرقه عبثا، ولكوابح سيارة يمسحها في الشوارع، ولعجلات وماتورات تتخبط وترتج عند كل مطب في الشارع، هكذا هباء ودون أي قيمة فعلية أو ناتج للمجتمع؟
فاذا كنت معجبا بفريق البرازيل هكذا أنا، واذا كنت تحب ايطاليا فكذا أنا، واذا كنت تؤيد منتخب الأرجنتين فهكذا أنا أيضا، فلماذا لا تحتفل كما أحتفل أنا، وتفرض عليّ عنوة وقهرا وغصبا أن احتفل على طريقتك؟ فاذا كان عشرات الأشخاص ينجرون وراءك، فورائي بل معي والى جانبي مئات وألوف الناس الذين يبقون في بيوتهم، يفرحون بقلوبهم، بابتسامة خفيفة، بآهة جميلة.. فلماذا لا نحترم قرار كل أولئك ونرغم على التجاوب مع قرار أقلية مزعجة مقلقة بضجيجها غير المبرر وغير المنطقي. واذا أتاكم أحد بسبب مقنع لهذه الهستيريا الجماهيرية فاني سأنضم اليها واليه صاغرا صابرا. ولتكن أفراحكم متواضعة وعقلانية ومنطقية، كي تكتمل أفراح الجميع. وكل "مونديال" ونحن برجاحة عقل.