بقلم منير فرو
نعيش اليوم في زمان تبحث فيه البشرية عن السلام فلا تجده فيقولون : "سلام سلام ولكن لا سلام "،
لقد أصبح تحقيق السلام معضلة لا يمكن حلّها، لأن السلام الذي تنشده الدول هو سلام مصالح، سلام أقوال لا سلام أفعال، سلام فيه يظهرون بعكس ما يضمرون، سلام يبنى على الحيلة والمكر والدهاء والخديعة، لا على الضمير والمحبة وحسن نوايا، فيتظاهرون بالسلام وقلوبهم شتى، فهم يريدون السلام حسب أهوائهم وما تقتضيه رغباتهم المادية، ذات الأطماع والمكاسب والمنفعة الذاتية، لا الإنسانية الروحية، التي تدعو إلى تقديس الإنسان وتحترم حقوقه الشرعية وكرامته في حق وجوده كغيره على وجه البسيطة، لذلك قال الأديب اللبناني ميخائيل نعيمة : " السلم لا يولد في المؤتمرات الدولية ، بل في قلوب الناس وأفكارهم "،
لقد امتلئ عالمنا مؤتمرات تدعو إلى السلام، ولكن جميعها باءت بالفشل، لأنها لم تنشد السلام إلا لأغراض مادية تخدم جماعة دون جماعة، وفي الحقيقة السلام هو لأبناء السلام ، لأنه لغة تفهمها القلوب الخيّرة، والعقول السليمة، كما قال يسوع عليه السلام في الإنجيل الطاهر: " طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون "،
فالسلام لمن امتلئ قلبه خوفا ووجلا ومحبة من الإيمان بخالقه، فيعمل كل ما يرضي خالقه فلا يعادي ولا يعتدي وإنما يسعى دائما لإصلاح ذات البين، فيدحض الشر ويقوي الخير ولغة التواصل بين الناس، قال تعالى في القران المجيد : " والله يدعو إلى دار السلام "، أي إلى الاستقرار والاطمئنان بتوحيده، ولا يصح التوحيد إلا بترك كل ما لا يريده الخالق من عمل السوء، فمن أحب خالقه أحب جميع الناس، لأن القلب الذي يحب لا يكره، بل يطمئن بالإيمان ويرى كل ما هو شرا خيرا، لأن عمل الشر هو فعل الشيطان، وهو يدعو إلى عدم الأمن والاستقرار، لقوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة، ولا تتبعوا خطوات الشيطان ، إنه لكم عدو مبين "، وهذا ما عبّر عنه المثل الهندي : "القلب المتمتع بالسلام يرى عرسا في كل القرى"،لقد أصبح حب الإنسان للسيطرة والتوسع في الأطماع وكسب الثروات مع استغلال الدين والعقيدة تغطية لمشاريعه أكبر خطرا،
فالسلام أصبح مفقودا، كافتقاد العين إلى نور الشمس، والأذن إلى السمع، والأنف إلى الشم، واللسان إلى الذوق، والصدف إلى الجوهر، والروح إلى الجسد، والأشجار إلى الأثمار، والنار إلى الأوكسجين والكون إلى الحياة، فالبشرية أصبحت على وشك الاشتعال والتلاحم، وتقف على شفا جرف الهاوية والجحيم، بسبب النوايا السيئة المجردة من الإنسانية وحب الخير والمعاملة الحسنة، فالبشرية قادمة على فتنة لم تشهدها من قبل، مليئة بالتناحر والتنازع والعداء والمواجهة، ولكن هناك من يدعمها ويزيدها لهيبا ظنا منه بأنها تخدم مصالحه ويحصل على ضالته، ولكن هيهات فهذه الفتنة ستكون نارا تحرق الجميع بلهيبها، وحربا تطحن الكل برحاها،
إن مسؤولية الحروب في العالم عامة وفي الشرق خاصة وإغراقه بدماء الأبرياء، تقع على المنظمات الدولية، كهيئة الأمم، والأمم المتحدة، ومجلس الأمن، ومنظمة حقوق الإنسان، وغيرها من المنظمات، التي أنشأها العالم بعد الحربين الكونيتين، التي ذهب فيها ضحايا بشرية ومادية وبيئية ما لا يحصى، فأراد العالم بهذه المنظمات أن يضع حدا للحروب والتسلح، ورفع ويلات الحروب عن الإنسانية، ونشر السلام كي يعيش العالم في جنة أرضية،
فعالمنا بعد الحربين الكونيتين والتقدم التكنولوجي بات قرية صغيرة ومنفتحا ومتفتحا خاصة في ظل نشر الحريات والأنظمة الديمقراطية والرفاهية الاجتماعية والاقتصادية والتسهيلات الحياتية والأمنية ووسائل النقل، التي جعلت من البعيد قريبا، فصار بإمكان أي إنسان أن يزور أي بلد ويسكن أي فندق يريد ويتنزه في أي مكان، حتى كاد الإنسان لا يحتاج إلى دولة بل إلى مؤسسات لنشر الأمن والنظام،
فعالمنا لا ينقصه سوى الأمن والاستقرار والهدوء لأنه كاد أن يكون جنة أرضية، يتمتع بتمام الصحة والعافية والسعادة، لا شقاء ولا عناء فيه، وبإمكان المنظمات العالمية أن تفرض هيبتها لتحقيق هذا الاستقرار وإعطاء كل ذي حق حقه، ولكن وللآسف قرار تقسيم فلسطين إلى شعبين ودولتين : إسرائيل للشعب اليهودي، وفلسطين للشعب الفلسطيني، لم يطبق حسب ما جاء في وعد بلفور والكتاب الأبيض الأول والثاني ومعاهدة سايكس بيكو ، لان الإعلان عن قيام دولة إسرائيل عام 1948 وتقديم الدعم الكلي لها دون الإعلان عن فلسطين إلى جانبها، بل تجاهل الشعب الفلسطيني بالكلية، ولم ينظر إليه كأنه شعب كباقي شعوب العالم يريد نيل استقلاله، والحصول على حريته، مما أبقى الشعب الفلسطيني يعيش تحت مطرقة المجازر والحروب والملاحقة وسندان التخاذل والتواطوء والإهمال والتجاهل، وهذا أثار ضغينته تجاه هذا الإجحاف والظلم العالمي الذي تبين جليا بانحياز العالم إلى إسرائيل دون أي مبرر.
فتأخير الإعلان عن دولة فلسطين حرة ومستقلة للشعب الفلسطيني بجانب الدولة العبرية، كشف عن مؤامرة اشتركت فيها كافة دول العالم ، مما عاد على العالم بالسوء وعدم الاستقرار، لان تأخير الدولة الفلسطينية جعل من الشعب الفلسطيني شعبا مشتتا في كل بقاع الأرض، مطاردا وملاحقا، تولد عنده حب العودة إلى أرضه، وصار هذا حلمه الأول والأخير، كما كان حلم الشعب اليهودي وهو يعيش في الشتات، وهو العودة إلى ارض إسرائيل،
فتجاهل العالم ومنظماته وهيئاته حق الشعب الفلسطيني جعل هناك حائلا بينهم وبين الوصول إلى أرضهم ، مما جعل العالم يعيش حالة من الإرهاب والانتقام والاضطراب، وبات قنبلة موقوتة تنفجر كل حين في مواضع كثيرة في العالم، فصار هناك حركات أصولية نابعة عن عقيدة إسلامية، جعلها تطالب دول العالم بإيجاد حلا للشعب الفلسطيني، وعندما تبين أن جميع الطرق مسدودة ومغلقة، وكل المحاولات باءت بالفشل بدأ الفلسطينيون يعملون بسرية تامة، ويجوبون المعمورة مخلفين العمليات التخريبية ، ومهددين امن العالم بعدم الاستقرار ما دام هناك تباطوء وتأجيل في الإعلان عن دولة فلسطين، وهذا جعل المعمورة تعيش في حرب دينية أصولية متطرفة، وجعل قتل البشر باسم الدين من كلا الأطراف،
ولهذا جميع التفجيرات والاضطرابات التي يشهدها العالم هي بسبب هذا التقصير المتعمد، والنوايا المبطنة التي تحوي في طياتها مصالح ذات أطماع مادية جشعة، تهدف إلى الهيمنة والتحكم، وما أحداث لبنان والعراق وأفغانستان والسودان وبرجي التوائم في نيويورك وأحداث غزة الأخيرة الدامية إلا بسبب هذا الحرمان للشعب الفلسطيني، والذي لا شك أن العواقب التي يخبئها الزمان سوف تكون أعظم بكثير، ولا من رابح.
لذلك على العالم ومنظماته الدولية محاسبة الضمير الإنساني، وتغيير مجريات الأمور، والعودة إلى تصليح الخطأ والإجحاف بحق شعب أراد الحياة قبل فوات الأوان، والوقوع في خسران ، وحيث لن ينفع كلام لإنسان.
فأدعو العالم إلى محاسبة الضمير، والكف عن الحروب، والعمل للسلام قولا وعملا، وليعيش الشعبان الإسرائيلي والفلسطيني جنبا إلى جنب، يتبادلان الزهور والورود بدل الصواريخ والقذائف، فشرقنا سئم هذا الصراع العربي الإسرائيلي، وبات عطشانا للسلام أكثر من أي وقت مضى، وبإمكانه أن يعيش بسلام ويفرض السلام في حال إذا تغاضى الطرفان المتصارعان عن الشرور وأفكار السوء والنوايا الخبيثة، لأن واحة السلام لا يدخلها إلا الغالبون لأهوائهم ومن نصرهم الله ، ولتكن أحداث غزة آخر المآسي ونهاية الآلام، والله هو المراد والموفق للعباد ..