بقلم: سعيد نفاع
ما أن اعتلى خطيبنا منصّة المهرجان ودون مقدمات ولا "تحماه" كعادة الخطباء، راح يزعق :
"يجب أن يفهم هذا الكيان المارق الفاشستي الوحش المحتل الغاصب الناز...، و"قطشها ساعلا..."! وأن تفهم سيّدته أميركا أم الاستعمار المنهزم حتما بسواعد الأحرار، وأن تفهم الكولونياليّة الاستيطانيّة الجديدة المجرمة الزائلة إلى جهنم وبئس المصير، أن لصبرنا حدود وأننا نمهل ولا نهمل، وسوف نسحقهم بقوة المقاومة المظفرة كما سحق خالد بن الوليد الروم وطارق الأسبان وابن القاسم الهنود..."
فهمس الشيخ الذي جاورني: غريب كيف نسي ابن الوقّاص صاحب القادسيّة؟!
قالها الشيخ وكان قد علا التصفير والتصفيق الحاد وال-"الله وأكبر" و-"يا عراقي أضرب أضرب أمريكا عمتهوي وعمتهرب" و-"يا فلسطيني حيّي حيّي الصهيونيّة رأس الحيّة" ووو... ولم أعد أسمع أو أميّز أي كلام خصوصا وأن كل ذلك اختلط بصوت الخطيب الهائج حماسا صامّ الآذان من مكبرات الصوت والتي كانت دون وقبل ذلك تئن تحت جهوريّة صوته الزاعق، فكم بالحري وقد دبّ الحماس في الجماهير وراحت تهتف دون انقطاع ليتداخل هتافها بخطابه عبر المكبّرات.
ولم يبق لي إلا عيناي التي راحت تتفرس في أوداج الخطيب المنتفخة حتى لخلتها ستنفلق، وفي عرقه الذي يزر من كل ناحية من رأسه مدرارا وفي إصبعه المهددة المتوعدة بإشارات تنبيه وتحذير وتهديد للاستعمار والصهيونيّة والرجعيّة، والتي ما تلبث بعد أن تنفض العرق من على أرنبة أنفه، أن تنضم إلى أخواتها بقبضة تكاد شرايينها تتمزّق وهي تلاكم الهواء، وفي شفتيه المزبدتين الضائع ما تنطقان به بين مكبّر الصوت والتصفيق والتصفير.
عذّر عليّ كل ذلك سماع كلمات بقيّة الخطاب اللهم إلا بعض الجمل، ورحت أرجو الله أن تتمهل إسرائيل والولايات المتحدة قليلا، إذ خلتني للحظة أعتقد أنهما أعلنتا على عجل حالة التأهب القصوى في جيوشهما والـتأهب الأوّلي في جيوش حلف شمال الأطلسي تحسّبا من زحف الجماهير اللابدّ قاعدة أمام قناة "الجزيرة مُباشِر".
انتهى الخطاب وخطا الخطيب تاركا المنصة مزهوا وسط الصفير والتصفيق وال-الله وأكبر ووو...، نازلا متجهما متجها نحو مكانه في الصف الأول، الذي وقف مالئوه يصافحونه والبعض يتبادل وإياه القبل وآخرون يربتون على أكتافه وهو يحيي مبتسما من خلال تجهم وجهه ليضفي على الموقف جديّته نظرا لخطورة المرحلة، وبقيت الجماهير قاعدة تنتظر الخطيب التالي فهدأ هذا من روعي، فإذا لم تزحف هذه فلن تزحف تلك القاعدة أمام "الجزيرة مُباشر".
والشيخ الذي جاورني ما زال يكرر ويسألني: لماذا نطّ عن ابن الوقّاص؟! دون أن يسمع مني إجابة طبعا، ولا أعرف إن كان توقّع أن يسمعها فأنا على الأقل لم أنو الإجابة حتى لو عرفت وكوني فهمت أن سؤاله استنكاريّ.
وانفضّ الجمع وظلّ الشيخ ودون حتى أن يعرف من أكون، يلازمني في انفضاضنا وما أن ابتعدنا حتى بادرني بحديث، هذا ما أذكر منه:
"قبل سنين... وكل مدّة ومدّة كانت تْولّع طوشة بيننا نحن الغَرابَة وبين الشراقَة...مرّة نِختلِف على العين ومرّة على الحَقلِة ومرّة لأنه واحد منهم عِمل كذا وواحد منّا عمل كذا...وكان واحد من حارتنا شو حماسي ما تِلحَق تولّع حتى يطلع على أعلى سطح يَنخي ويْدَرْدِب ولكنه ولا مرّة أكل حجر ولا ذاق عصا... وفي آخر طوشة، الله يكفينا الشر وما نكون نْفوّل، قررنا نهجم عليهم على بَغتِة وصمطْ فينا أخونا خطاب وأنهاه مقترحا أنه ما في حلّ إلا نظل نقتل فيهم تَيِرحلوا وإذا أخذناهم على بغتة فالغلبة مضمونة... وما أن هجمنا قبل فطور رمضان وإلا الجماعة مِتْحضرين... وعلِقنا علقة الله لا يْوَرْجيك مثلها وسال دم وانْطرْحت زْلام... وصارت صُلحة وتناسينا وصار لنا سنين ما نتطاوش... بس اللي يعِجبك إنه تبيّن إنه أخينا قبل ما ينام ليلتها كان صار مْخبّر الجماعة عن الخطّة... ومن يومها يا عميّ وأنا أخاف من كثر الدّرْدَبِة..."
لم أعرف أنه أنهى إلا بعد أن رأيته يبتعد عنّي بخطى وئيدة دون أن يلتفت عاقدا راحتيه وراء ظهره الحاني. وما زالت ال"دّرْدَبِة" "تُّدَرْدِبُ" في رأسي، وقررت أن لا أنام هذا اليوم قبل أن أفلّي لسان العرب بحثا عن معناها الدقيق رغم أني فهمت معناها من السياق، وقبل أن أنام وجدت أحد معانيها القريب من حالتنا، فالدَّرداب هو صوت الطّبل.
ووجدتني أقول لنفسي: "يا ما في حِكم في روس أهلنا !".