بقلم : منير فرو
قال الشاعر الهراوي :
ربّوا بنـــــيكم علـــــموهم هذّبوا فتيــــــانكم والعلم خير قوّام
والعلم مـــــال المعدمين إذا همّوا خرجوا إلى الدنيا بغير حطام
انظر إلى الأقوام كيف سمت بهم تلك العلوم إلى المحل السامي
وأخو الجهــــــالة في الحياة كأنـه ساع إلى حرب بغيـر حســـام
فـــــــالجهل يخفض أمـة ويذلــها والعلم يرفعـــها أجــــــل مقام
عندما نتكلم عن التربية والتعليم نقصد بها تربية أولادنا وتنشئتهم على الأخلاق السليمة التي هي الفضائل التي هي الأسس والركائز لبناء مجتمع سليم مبني على طبائع الخير يسهل فيه العيش والعشرة والتقدم نحو الأفضل فالأخلاق السليمة تعني الأمن في المفهوم الحضاري الخالي من الإرهاب الفكري والحسي والجسدي حيث لا قتل ولا سرقة ولا تعديات بل فيه راحة بال واطمئنان وهذا شرط أولي للحياة وأيضا إبعادهم عن الرذائل التي هي عكس الفضائل تغمس الإنسان بالشرور والتعديات فيتكدر صفاء العيش وينعدم الأمان .إن المدلول اللغوي لمفهوم التربية من ربى ولده، والصبي يربه، ورباه أي أحسن القيام عليه حتى أدرك، فالتربية تعني تعهّد الطفل بالرعاية والتغذية المادية والمعنوية حتى يكبر ويصبح شابا، تلقى عليه مسؤولية الحياة، وعلى هذا الأساس اهتم الفلاسفة والعلماء في مفهوم التربية ، واجتهدوا في البحث في مضامينها العلمية، فيقول الفيلسوف الإغريقي أفلاطون : " التربية هي إعطاء الجسم والروح كل ما يمكن من الجمال، وكل ما يمكن من الكمال " ، وهذا يعتمد على الناحية الكمية من التربية، وذلك بمزاولة جميع الأنشطة العقلية والبدنية المؤدية لكمال الفرد، ويقول المعلم أرسطو: " الغرض من التربية هو أن يستطيع الفرد عمل كل ما هو مفيد وضروري في الحرب والسلم ، وأن يقوم بما هو نبيل وخيّر من الأعمال ليصل إلى حد السعادة " ، وهذا يهتم بالناحية المهنية من التربية لما فيه منفعة الفرد وسعادته في دنياه ، لقد اتفق ايضا الفلاسفة والعلماء على أن العقل من الأشياء الأساسية للمعرفة، وكل شيء يتنافى معه فهو باطل، وثبت أيضا أن غذاء العقل العلم، وأن تنمية القوى العقلية للإنسان لا تكون إلا في طلب العلم، لأن بالعلم ينشط العقل ويقوى على ممارسة الوظائف العقلية، لقول الإمام علي بن أبي طالب –ك - : " ليس من شيء أحسن من عقل زانه العلم " ، والتربية تبدأ من الصغر وعليه تقع المسؤولية الكبرى في تربية الولد وتعليمه على الأهل الوالد والوالدة لكونهما السبب في وجوده إلى فسيح الدنيا وهما الأقربون والراعون له، فعليهما القيام بتربيته حسب ما هو مطلوب، فإذا كانت تربيته سليمة كانت فرحتهم به أكبر، وبالعكس إذا كانت تربيته معوجة كانت حياتهم ذات نغص، وعدم راحة عدا الشيم والعيب، ولكن هناك فرق بين مفهوم التربية والتعليم، وعدم التمييز بينهما يؤدي إلى تشويش شخصية الطفل، لأنه لا يجوز تزويد الطفل بكل أنواع الثقافات قبل تهذيب أخلاقه وتهيئه للتعليم، والتعليم يكون على مراحل وحسب ميول الطفل، فالتربية تقوم على تهذيب سجايا الطفل الخلقية، وتعليمه المباديء الأساسية الثابتة لتصوب أعماله وتوحي سلوكه في علاقاته مع الناس،والتربية تشبه بالأساس تهيئة الأرض إلى الزراعة فيعمل الفلاح على تعزيلها من الأحجار ونكشها وحرثها لتصير قابلة للزراعة وأما التعليم فهو تغذية الطفل بالمدنية التي جمعها الإنسان في شتى الحقول، وبذلك يتوفر له عناصر النشاط الفكري ويعرف حالة التمدن الحديث، والتعليم يشبه زراعة الأرض بالمنتوجات المختلفة كتعليم الطفل العلوم المختلفة ليقدر على تحصيل العلوم واختيار المهنة أو الصنعة التي تلائمه وأقرب مثل على ذلك ما ضربه الإمام الغزّالي : " ومعنى التربية يشبه فعل الفلاح الذي يقلع الشوك ، ويخرج النباتات الأجنبية من بين الزرع ليحسن نباته ويكمل ريعه "، لأن الصبي في نظر الإمام الغزّالي أمانة عند والديه، وقلبه جوهرة نفيسة، ساذجة وخالية من كل نقش وصورة ، وهو قابل لكل ما نقش، ومائل إلى كل ما يمال عليه، فإن عوّد الخير وعلّمه نشأ عليه، وسعد في الدنيا والآخرة ، فالإنسان كما قيل : " يجمع إلى حد القوة حد الضعف ، فهو قوي بعقله وفعاليته، وضعيف تقتله الشرقة ، وهو يجمع بداخله أضدادا تتصارع فيها قواه العقلية والعاطفية، فيرتفع إلى مستوى لائق بعقله ، وينحدر إلى مستوى بهيمي شهواني بغرائزه" ، وكما جاء عن العالم : "العالم على أربع طبقات، طبقة نباتية، طبقة حيوانية، طبقة إنسانية وطبقة ملكية "، فالنبات ينمو ويتغذى ، ولا يملك الإرادة، وما به عقل ولا شهوة ، وأما الحيوان فهو ينمو ويتغذى ويحس، وله إرادة الحركة وفيه شهوة، ولكن ليس له عقل، وأما الإنسان فهو كالنبات والحيوان ينمو ويتغذى ويحس ويفكر، ولكنه له عقل وشهوة وإرادة ، وقابل للتعليم والمعرفة، وأما طبقة الملائكة فهي كالإنسان ولكنها عقل بلا شهوة ، فإذا غلب على الإنسان الشهوة هبط إلى الطبقة التي دون طبقته الإنسانية ، وهي طبقة الحيوان، الذي هو شهوة بلا عقل، وإذا غلب الإنسان عقله شهوته، ارتقى إلى الطبقة التي هي أرفع من طبقته وهي طبقة الملائكة، والتي هي عقل بلا شهوة ، لذلك جاءت التربية للإنسان لتطهير نفسه بإعانة العقل، وواسطة العلم من شهواته البهيمية، والتي هي الحاجز بين ارتقاء الإنسان بعقله إلى أعلى المنازل، فالإنسان مغروزة فيه غرائز كثيرة، تتغيّر بتغيّر بيئة الإنسان وثقافته، لأنه يتأثر بالأحوال والظروف المحيطة به ، مما يجعل له شأنا في صياغة أفكاره وأخلاقه وعاداته سلبا أو إيجابا ، وكل ذلك متعلق بالأمور التي تؤثر في مجرى حياته، ولاختلاف البيئات ومقوماتها وعناصرها الثقافية والاجتماعية والبيئية أثر كبير في اختلاف أفراد النوع الإنساني وتمايز سماتهم العقلية والبدنية حسب قول إبن خلدون ، وكيف لنا التكيّف ؟ ونحن نعيش في دولة جاء سكانها من كل أصقاع الأرض، كل له عاداته، تقاليده ،أفكاره ومعتقداته، وكل منها يريد أن يجعلها في الصدارة وتطبيقها على أرض الواقع، مما يتنافى وتقاليدنا الشرقية الأصيلة، التي نفتخر بها ونعتز بمقوماتها، لأنها مبنية على تربية قويمه مرجعها المعتقد الديني النوراني، الإيماني والإشراقي الذي يدعو إلى توحيد الخالق ، لذلك الأهواء والغرائز المتناقضة داخل الإنسان هي التي تتحكم في نفسه، وتوجّه سلوكه، وتحدد سماته الخلقية والفكرية، فبالإرشاد الصحيح، والتربية الصالحة، والتعليم القويم، يسهل توجيه النفس إلى الوجه السليم، الذي فيه الإنسان يرتقي في درجات العلم بحسن الأخلاق ولين الطبع، لذلك وجب علينا جميعا من أجل خلق مجتمعا صالحا ومثقفا أن نعتني بتربية أولادنا على طريقة الأخلاق السليمة، البعيدة عن الرذيلة، لأنه لا ثقافة بدون أخلاق، ثم نربيهم على احترام الأبوين وطاعتهما دون تأفف، واحترام من هم اكبر سنا ولو كان أجنبيا ، ونربيهم بالامتناع عن التبذير والبذخ الذي هو من سمة الشياطين لقوله تعالى : " إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين "، بل نربيهم على القناعة والكفاف وعدم الركض وراء المال والذهب بل نعودهم على خشونة المأكل والملبس والابتعاد عن التنعم ولبس الحرير الذي هو من شأن النساء، وأيضا تخويفهم من الكذب والسرقة والتعديات على ممتلكات الغير والسب والقذف وأيضا نعلمهم على حب الكتاب والمطالعة وقراءة التاريخ والقصص البطولية والابتعاد عن قصص الهوى والغرام منذ الطفولة لان لها تأثير في أخلاق الطفل وتجعل بينه وبين اكتساب العلم حاجزا، وأيضا نعلمهم الابتعاد عن المسكرات والمخدرات وتعاطي السموم الذي هو آفة العصر وسبب الانحلال الخلقي ، وأيضا نعلمهم الابتعاد عن العنف بشتى أنواعه وأساليبه والحذر في الطرق وعدم السياقة بدون رخصة سياقة ثم عدم التهور بها لما تحدثه من مخاطر، ونعلمهم حب الأرض والوطن والغيرة على الأهل والأصحاب والجيران وحب العطاء والبذل والتضحية والبر والإحسان ومساعدة المحتاجين والرفق بهم وبالحيوان أيضا وأخيرا الأهل هم المسؤولون أولا وآخرا عن تربية أولادهم، وكما قال الملك سليمان الحكيم-ع - ، الممنوح من باريه حكمة الأولين والآخرين : "ربّي ابنك صغيرا تفرح به كبيرا " ، ولكن يجب أن نتفادى في تعليم أبنائنا الإكراه على التعليم دون التحبب إليه بشتى الوسائل، لأن إكراه الولد على ما يناقض مزاياه النفسية والخلقية يؤدي إلى قتل شخصيته، ويهدر طاقته، ويدفعه إلى المشاغبة والنفور، وبذلك نصاب بقول المثل : " اجا تايكحلها عماها " ، لأن التعامل مع الولد كالتعامل مع النفس دون استعمال العنف والقهر في مقاومتها للسمو بها إلى مطاف الخلق النبيل، وبما أننا أصبحنا على أبواب السنة الدراسية فعلينا جميعا آباء وأهالي ومعلمون ومدراء ومسؤولون على حقيبة التعليم العمل سويا وبصورة جدية على تربية الأطفال بالصورة الصحيحة وتشجيعهم على التعلم وتهيئة الأجواء لهم على كسب العلم لأنهم أبناء المستقبل وكما قال السيد المسيح –ع- : " ليفرح الزارع بالحاصد " .