بقلم : مرزوق حلبي
سأردّ الهجوم الكاسح على رئيس السلطة، الوطنية محمود عباس، بسبب ذهابه إلى المفاوضات المباشرة، إلى عوامل النفس الفلسطينية المقهورة أكثر من ردّها إلى العامل السياسي وإن كان حاضرا. أفعل ذلك في ضوء أوصاف الشطب والتخوين التي نُعت بها رمز فلسطيني قد نتفق أو نختلف معه ـ والمرجح أننا نخالفه. فأهون النعوت كان نعت "الخديوي عباس"، وأقساها هو "رجل أمريكا" و"عميل" وما إلى ذلك. والمتتبع لما يُنشر في الساحة الفلسطينية لا سيما عبر الشبكة المفتوحة لكل مصاريعها ومصرصعيها، سيكتشف بأننا حيال حالة نفسية وليست سياسية. وهي حالة وهن الجماعة ومشروعها، حالة الشعور بانسداد الأفق واليأس. وهي حالة تُنتج أطنانا من الكلام العبثي وضجيجا يزجّ الفلسطينيين، أيضا، في عداد "الظاهرة الصوتية"، حالة من السوداوية التي تظلل كل شيء وتغيّب أفعال العقول ورجاحة الرأي وإمكانيات الحوار الحقيقي والأهم، أنها تُنتج عجزا تاما عن الفعل السياسي المؤثر.
ليس صدفة، إذن، أن يُصيب الكلام الفلسطيني رموزا وقيادات. وهي هنا نيابة عن الذات الفلسطينية الجمعية الخائبة أو المحاصرة. ولأن هذه الذات باحثة ككل ذات جمعية أو فردية عن التوازن الوجودي، فإنها مبدعة في إنتاج "البطل" و"المقاوم" و"البطل" مثلما هي فنانة في إنتاج "العميل" و"الخديوي" و"الخائن". وما دام عباس وصحبه الآن في خانة "العمالة" فلا بدّ أن يُصنف كل من ينتقدهم ويغالي في قدحهم في خانة "الوطني" و"البطل". بمعنى أن هذه الذات النازعة إلى الطمأنينة والتحرر تنشطر وجوديا بين ثنائيات متناقضة لا تنتهي هي نسق كارثي انتكبت به التجربة الفلسطينية والثقافة العربية عموما. أي إهانة هذه للعقل الفلسطيني وكل التضحيات من قبل ومن بعد، عندما يريدنا البعض أن نعتقد بأن مجرّد الذهاب إلى المفاوضات هو خيانة للقضية؟ وإهانة أخرى أشدّ وقعا إذ يريدنا البعض أن نعتقد بأن أبو مازن صحبه إنما ذاهبون إلى بيع القضية؟ قد يكون من الفلسطينيين مَن استحوذت عليه حالة الضعف فعجز عن تخيّل فلسطينيا كعباس مثلا يقول للإسرائيليين والأمريكيين وبصوت واضح ما قالته القيادة الفلسطينية في أوسلو وكامب ديفيد وما قالته القيادات العربية في مبادرة السلام العربية، وما قالته الجامعة العربية في اجتماعاتها وتصريحات رئيسها! هذه هي الأطر المفهومية والمرجعيات التي يتحرك أبو مازن على أساسها وفيها؟ وهل هم الإسرائيليون على هذه السذاجة لدرجة أن يوقعوا اتفاقا مع رجل أتى لبيعهم القضية؟ أي استخفاف بالعقول هذا الهذر المتنامي كالتسونامي في الشبكات العنكبوتية وصولا إلى بريدي. إنه هذيان اليائسين إلا من الكلام!
يُمكننا أن ننتقد الطريقة التي تم فيها الاتفاق على بدء المفاوضات ليس إلا. أما الوهن الفلسطيني وأزمة منظمة التحرير وقيام دويلة غزة حردبّة في ظهر المشروع الوطني، كلها متراكمة تُنتج وضعا فلسطينيا هشا في المفاوضات وغير المفاوضات يتحمل مسؤوليته كل الأبو مازنات في كل مواقع الشعب الفلسطيني. ومن الإهانة للذات الفلسطينية مواصلة إسقاط تداعيات ومفاعيل هذه الهشاشة على شخص واحد، ينقض عليه الجمع كأنهم في حفلة زار أو كأنهم يدفعون به قربانا للإسرائيليين أو غيرهم من الأنام نيابة عن الذات الضعيفة والنفوس الأضعف ضمن تشكيلات هذه الذات. قولي هذا لا يغلق الباب في وجه نقد معارض يقوي الموقف الفلسطيني، وفي وجه اجتهادات تمّكن المفاوض وتشكل له دعائم أو مرتكزات، أو في وجه مشروع سياسي آخر قابل للحياة يُطرح بديلا لما في جعبة أبو مازن. أقول هذا من موقع الذين يعتقدون أن القيادة الفلسطينية على فصائلها ومذاهبها أخفقت حتى الآن في تحقيق مشروعها ـ مشروع الفلسطينيين السياسي. لكن لن يكون من الإنصاف ولا من الكياسة في السياسة أن أدين من موقفي هذا كل شيء وأحكم على القيادة بالخيانة وأقيم على شرفها وشرفنا مذابح الكلام حيث استطعت إلى ذلك سبيلا!
قلنا أن المفاوضات تأتي في زمن فلسطيني صعب قوامه إخفاق المشروع السياسي الفلسطيني إلا إذا اعتبر البعض الإذدناب لإيران أو التحول إلى خط مواجهة أمامي دفاعا عن مشروع ولاية الفقيه مشروعا سياسيا! من هذا الضعف يذهب أبو مازن وصحبه وهم يدركون ذلك معرفيا وعلى جلودهم. ومن هذا الضعف ننظر إليهم كمندوبين لقضية طال عليها الزمن وليس كآخر المفاوضين ولا كآخر المفاوضات، بل كجولة أخرى يجرّبون فيها مرة أخرى ما لم يتحقق لهم من قبل. وهنا، أشير إلى خطأ في استراتيجية المفاوض الفلسطيني الذي ساعد في إنتاج حالة يكون فيها مجرّد التفاوض هو الحدث ـ كما يحدث الآن! وجدير به وبالقضية الفلسطينية أن يصير محور جدول الأعمال العام الدولي والعربي الإنسان الفلسطيني وحقوقه وتطلعاته. وهو ما يُمكن أن يحصل من خلال تغيير الاستراتيجة بحيث يكون المفاوض الفلسطيني (والعربي عموما) فيها مبادرا ضمن استراتيجيات الحوار والمقاومة المدنية في إعادة صياغة المشروع السياسي وموضعته من جديد قابلا للحياة والتطبيق بعيدا عن أوهام يروج لها ملالي إيران والقومجيون العرب المتحالفون مع الإسلام السياسي اليميني. بمعنى، أن أهم ما يصنعه المفاوض (القائد) الفلسطيني ألان هو تجاوز مناقشة البروتوكول والاهتمام بالإنسان الفلسطيني وحقه كفرد وجماعة في إرادة مستقلة وحريات عامة وخاصة وليس من الاحتلال وحده بل من نزعة ذاتية إلى مجاراة أفكار اليمين الإسرائيلي بأفكار مضادة لها بالاتجاه مطابقة لها في المضمون. ومن هنا ليس صدفة أن ينقضّ على أبو مازن اليمين الإسرائيلي أولا، يبزه على خط مواز ومطابق اليمين الفلسطيني!
حتى الآن لم يظهر في القيادة الفلسطينية على جيليها وشقيها العسكري والمدني قيادي واحد يُمكن أن نقول عنه أنه "باع القضية"، حتى أولئك الذين اقتربوا زيادة عن اللزوم نحو المحتل الإسرائيلي والمشاريع الأمريكية. ففي نهاية اليوم كانت الأمور تعود إلى "نقطة البيكار"، وهي المسألة الفلسطينية. وهي مسألة ستلقى من القيادة الإسرائيلية الحالية واللاحقة كل تعنّت وغطرسة، كما نرجح، لكن سيكون من البؤس أن تلقى هذه المسألة من أصحابها والمعنيين بها مباشرة هذا الخطاب اليميني البائس وهذا التشاتم وهذا اللعن للذات. إنه الضعف الفلسطيني، إنها نفسية المقهورين الذين يقطعون طريق الآلام إلى موقع الإدلاء بلائحة اتهامهم وإعلان روايتهم على الطاولة فينكفئون إلى تصفية حسابات الثأر وعُقد الفصائل والعقائد وسط هتاف المرفهين في رئاساتهم ومكاتبهم أو المحتمين في مخابئهم وكهوفهم.