17 عاما على رحيل كنز الدّرّ والجوهر وعلم العصر الأبلج الأنور، شمس العارفين ورمز المتقين، وسليل الدّعاة والشيوخ من "آل تراب" الغرر الميامين ، فضيلة المرحوم سيّدنا الشيخ "أبي يوسف أمين طريف - ر-
(1898-1993)
بقلم : منير فرّو
أحبــائي قد غبتم فيـــــا عظم وحشتي لـــــغيبتكم عني ويــــــــــا عظم لوعتي
ويــــــــــا عظم لهفاتي وفرط تولولي ويــــــــا عظم اشجاني ويا عظم حرقتي
ومـــــــذ غبتم غاب السرور مع الهنا وقد ضاق صدري من شجوني وحسرتي
وقد غـاب رشدي من مصاب أصابني وقــــــــــــد عيل صبري بل وقلت حيلتي
ها قد مرّ على رحيل الرعيل الأمثل، الراهب العابد الأكمل، الحبر القديس، الكنز النفيس، معدن الدين، وعنوان العابدين، العاقل الرزين، الصيّن المتين، سيدنا وعلمنا الشيخ أبي يوسف أمين، سليل شيوخ آل تراب من آل طريف الميامين، عليه رضوان رب العالمين، إلى يوم الدين آمين، سبعة عشرة عاما، وكأنه ما زال يعيش بيننا، وهذا دليل على أنه لم يكن إنسانا عاديا بل شيخا حكيما، لحق بعمله الصالح ونيته الطاهرة مطاف الملائكة المقربين،
ومما ثبت ذلك ما شوهد منه من كرامات الأولياء التي هي دون معجزات الأنبياء، إثباتا على إخلاصه لخالقه، وقربه منه، وتمسكه بأوامره ونواهيه، فالمرحوم كان قائما الليل، صائما النهار، يمتنع عن الكثير من الطعام المشبوه المصدر،
وهذا بعض ما ورد في كتاب "سيرة سيدنا الشيخ أمين طريف* وسيدنا المرحوم الشيخ علي فارس"، للكاتب المغفور له الشيخ عبد الله طريف حيث يقول :
" من المعروف أن الله تعالى، يخص أولياءه الكرام بكرامات ومميزات وبينات، كي يظهر فضلهم للبشر، ويقوى نفوذهم، ويرفع من منزلتهم، ويجعل المؤمنين سامعين، منصتين لارشاداتهم ووعظهم وتوجيهاتهم، حتى يستقيم المجتمع، وتقوى كلمة الدين والحق، فينتشر عمل الخير ويدحض الباطل .
لقد شاءت القدرة الإلهية أن لا تخلو البلاد من أولياء الله الصالحين حتى لا تفسد الأرض ولا يزحف الجهل .. هؤلاء الرجال الأولياء هم مراكز المجتمعات وقد خصهم الله بحسن الرعاية وأمانة القيادة وصدق النوايا .. ومن يقرأ التاريخ يجد أن المجتمعات التي تتمرد ولا تحترم أو تعمل بحسب إرشادات الأولياء وأهل الخير يسلّط الله عليها المحن والنكبات ما لا ينفع عندها لومة اللائم أو حسرة النادم أو توبة القاصد ...
لهذا نجد أن العدل والرحمة والحكمة الإلهية لا تقسو على أحد، بل الإنسان هو الذي يقسو ويغش ويخدع نفسه هو الذي يعطي الحرية للقوة الشريرة الكامنة في نفسه أن تتحرك وتنمو حتى تصبح من القوة والبطش ما يمكنها من محاصرة جميع عناصر الخير في نفسه وإخمادها، وهذا يكون منتهى الفساد وقمة الباطل، مما يستدعي تحرك المنتقم المحاسب المراقب الناظر"،
إن وجود سيدنا الشيخ في هذه البلاد لم يكن صدفة، وانما إرادة أرادها لنا الخالق ليظهر لنا الحق لنتبعه، فجاء كامل الصنعة الالهية من جمال الصورة وكمال الجسم ورزانة الفكر ونورانية العقل الممزوج بالحكمة العرفانية، فكان نطقه جواهر ويواقيت، يقف أمامه الناظر إليه مشدوها لهيبته، متعجبا لسكناته وحركاته، منصتا لحديثه، توّاقا لسماع حكمته وموعظته، طالبا منه الدعاء بالتوفيق بأعماله،
لقد قيل: " من أطاع الله أطاعته العباد، ومن أخلص لله سريرته أصلح الله علانيته وسيرته"، فكانت أصحاب المراتب العالية تأتيه ساجدة بين يديه، وهو لم يكن ليملك أساطيل حربية، ولا جنود عسكرية، ولا حكومات برلمانية، بل كان يملك أسرارا إلهية، تفوق عقول البشرية، جعلته ينال هذه المنزلة العلية،
فكانت أعماله مقرونة بصدق النوايا والاتكال على الله في كل عمل ، فيرمي جميع مقاليده إلى الله، يتكل عليه في السراء والضراء، والشدة والرخاء، يستعين به، ويتوسل اليه، فدائما يذكر الله ويستشعر وجوده، ويقول: ا"ذكروا الله، فان الله ذاكر من ذكره"، فلا يلتف يمينا وشمالا إلا بداعية، ولا ينطق الا بحكمة وموعظة، فصمته فكر، وكلامه ذكر، وسكوته اعتبار،
لقد قال أحد زعماء العرب السياسيين في البلاد : " لقد أنعم الله تعالى على الطائفة الدرزية برئيس روحي لا مثيل له في هذا القرن من الزمن، فهو يمدح الشخصيات اليهودية، ولا تستطيع أية صحافة عربية أو خارجية بانتقاده ، فلو فعل غيره من الزعماء، لتعرض لوابل من الاتهامات والتهديدات، ولكن فضيلته يختلف عن الجميع، فهو صادق في أقواله، جاد في أعماله، مخلص لربه وانبياءه، ولهذا وضع الله بينه وبين أولئك حاجزا منيعا، فالألسن تقول عن غيره ما تشاء، ولكنها عندما تصل إلى فضيلته يخرسها الله، والأقلام تكتب عن غيره ما تشاء، ولكنها عندما تصل إلى فضيلته تجف بقدرة الله، فهنيئا لهذه الطائفة التي يرأسها هذا الرجل الصالح الفاضل، وهنيئا لهذا الرجل الصالح الفاضل، الذي يرأس هذه الطائفة المباركة الشجاعة الكريمة "،
فوجوده رحمه الله كان عبارة عن حجاب وحرز واق لهذه الطائفة، يقيها من المحن والصعوبات، فكل قضية كانت تصل بين يديه تذوب وتنصهر وكأنها لم تكن، فيحل المشاكل جميعها بترو مستمدا بالالهام الرباني، فيحكم بالعدل، ويعود كل شخص من عنده راضيا بحكمه،
حافظ على العرض والشرف والدين، كان غيورا على مصالح أبناء طائفته، لا يأتيه النوم إذا شعر بان أحد أفرادها مضام، لقد نادى فضيلته دول الشرق بان يصنعوا السلام فيما بينهم، ويكفوا عن سفك الدماء الزكية، وان يهتموا بنشر الالفة والمحبة،
وعندما فرضت دولة إسرائيل الخدمة الإجبارية على الطائفة عام 1957 كان من المعارضين، ولما رأى الأمر قد خرج عن إرادته طالب بإعفاء الشباب المتدينين والفتيات الدرزيات من هذه الخدمة، وأيضا طالب مكاتب الداخلية بعدم وضع صورة الفتاة الدرزية على الهوية، وقد قام بتنظيم الزيارات والأعياد الدينية، وأقام لجان ترعى شؤون الطائفة، وشكل هيئة دينية لتسانده في حل المشاكل والصعوبات التي تواجه الطائفة، وطالب أيضا باستقلال المحاكم الدينية الدرزية لتقضي بموجب المذهب في شؤون الطلاق والزواج والإرث والوصية وغيرها،
إن زعامته لم تنحصر في إسرائيل، بل تجاوزت الحدود لتصل إلى سوريا ولبنان والأردن وكل مكان تسكنه العشيرة المعروفية، فيعملون بحكمته، ويتشوقون لسماع كلماته عبر الأثير،
لقد كان فضيلته المرجعية الأولى والأخيرة لدى الطائفة، يستشار في كل قضية ويزوره رجال السياسة للاستبراك بدعاءه، للمرحوم مواقف كثيرة وهامة خاصة عند اعتداء الطاغية الشيشكلي على أبناء جلدته في سوريا، محاولا قتل الزعيم سلطان باشا الأطرش عام 1953 ، وأيضا عام 1984 أيام حرب الجبل مع الكتائب، وأيضا عام 1990 ووقوفه الى جانب السلطات المحلية في القدس لاعطائهم الميزانيات، عدا عن المطالبة بوقف مصادرة اراضي القرى الدرزية واعطائهم حقوقهم،
كانت وفاته في وقت بدأت شرقنا يتجه نحو السلام، فرثاه رئيس الحكومة آنذاك المغدور إسحاق رابين بقوله : " نودع الرجل العظيم الذي عمل للسلام طيلة حياته، وساعد في تقريب وإحلال السلام للاجيال القادمة "، فلإخلاصه ووفائه لأبناء قومه جعل دولة إسرائيل تلبي له ما يريد، ومنحته جائزة إسرائيل لواسع حكمته، ومناشدته السلام داخل وخارج إسرائيل،
لقد قال عنه السيد شمعون بيرس : " أن شخصية الشيخ أمين فريدة من نوعها، ولم يكن مثيلا لها في عالمنا هذا ، قضى ما يقارب السبعة عقود في قيادة الطائفة الدرزية، ولم يسبقه في ذلك أحد، وبفضل قوته الخارقة، وتأثيره المنقطع النظير، وحّد الطائفة متخطيا الحدود المقفلة، فنجد أن جميع أبناء الطائفة الدرزية تعمل بتوجيهاته وإرشاداته دون المس بأي دولة من دول الشرق رغم انقطاع الصلة المباشرة، لقد حمل لقبا كبيرا "الزعيم الروحي" أي كان زعيما وكان روحيا، لقد جمعت شخصيته الزعامة والروحانية ولم اذكر أن اجتمعت هاتان الصفتان في غيره "،
ومما نقل من إحدى كراماته: أنه حدث مرة أن فضيلته أراد أن يوسع غرفة ضريح مقام سيدنا الخضر –ع- في كفر ياسيف، وكان يوجد بجنب الغرفة مقبرة لدروز كفر ياسيف تعيق العملية، فأشار البعض بإزالتها من قرب الضريح بسبب البناء، واستحسن فضيلته ذلك، ثم توجه إلى صاحبها ليتفاوض معه بذلك، فلم يوافق، فبعث صديقا له بواسطة فقبل منه على شرط أنهم يبنون له بدلا منها، فوافق سيادته ثم بدأوا بإزالة المقبرة القديمة فتعسرت الأمور بإتمام بنائها، وكان لصاحبها والدة مريضة على حافة الموت، فراجع بالأمر وقال إن والدته في خطر وأين يدفنها إذا ماتت ؟ وبدأ يتهدد بأنه سيدفنها موضع المقبرة القديمة، فأجاب سيدنا الشيخ قائلا : " إني كفيل على ناقل الأرواح عليه السلام أنه ما ينقل أحدا منهم قبل إتمامنا البناء للمقبرة الجديدة بعيدا عن المقام، وابتدأوا ببنائها وبعد الانتهاء بقليل توفيت والدة ذلك الرجل ودفنت في المقبرة الجديدة فور انتهاء معلم البناء من إزالة خشب القالب من سقفها، فقال فضيلته لمعلم البناء وكان من المقربين إليه : صاحب الضمان برىء من ضمانه، وصاحب الدار وصل إلى أمانه "،
وإذا جئنا لنسرد ما ظهر له من كرامات تعجز الألسن والأقلام والكلمات من تسطيرها، فسيادته بالرغم من كونه شخصية دينية ذات خشوع ومهابة كان يتقلد زعامة دنيوية أيضا، يطرق باب السلطات ليحصل على حقوق لطائفته، ومن تلك الحقوق والتي ما زالت تعاني منها الطائفة الدرزية في البلاد قضية الأرض وما يهددها من مصادرة الدولة لها،
فلنتبع خطاه، ونعمل بهديه وهداه، ونستعين بتقواه، لنتوفـّق في دنيانا وأخرانا، رحمات خالقنا تترى عليه ما تبدل الجديدان، وما ارتفع آذان، ودعا إلى الفلاح لسان وجنان،
وهذا بيان صادر عن سيادته بخصوص أوضاع بيت جن في 18/5/1987 حيث يقول بعد البسلمة والتوكل :
" لقد آلمني كما آلم جميع أبناء الطائفة الدرزية الضائقة الخانقة التي يعاني منها الأهل في قرية بيت جن، فباسمي وباسم أبناء الطائفة الدرزية عامة، أتوجه للمسؤولين وعلى رأسهم حكومة إسرائيل، أن يعملوا جاهدين لحل مشاكل بيت جن بأسرع وقت ممكن، إن الظروف الشديدة التي تمر بها جميع القرى الدرزية إن دل على شيء يدل على تقصير في معالجة قضايا القرى الدرزية، وأي تأجيل في حل تلك المشاكل يزيد من المرارة والامتعاض في قلوب أبناء الطائفة الدرزية، الذي لا أريده شخصيا ولا يريده جميع أبناء الطائفة الدرزية عامة، ولهذا لا تنفع اللجان ولا تنفع الوعود، وما ينفعنا حاليا فقط التنفيذ وإبداء النية الحسنة من قبل المسؤولين،
وإني أتوجه إلى جميع أبناء الطائفة الدرزية أن يتحدوا على قاعدة من الإخلاص وتنقية الضمير، ويطالبوا بالطرق المشروعة بكل حق يحق لهم، كما أتوجه للمسؤولين بأن يحسنوا استماع تلك المطاليب ويعملوا بجد وبنية حسنة لايجاد الحلول المرضية والمعقولة لها، وكلي أمل بأن يلقى ندائي هذا آذانا صاغية لما فيه الخير والطمأنينة للجميع .
مع أخلص التمنيات
أمين طريف "