بقلم: رنا نجار
يطرح فيلم "العودة الى الذات" الوثائقي للمخرج الفلسطيني بلال يوسف الذي عرض أخيراً سينما "ميتروبوليس" في بيروت، ضمن مهرجان "أيام بيروت السينمائية"، موضوعاً إشكالياً وملتبساً قلّما حُكي عنه في السينما العربية، هذا إن لم يكن يطرح للمرة الأولى. فتقوم فكرة الفيلم الحائز على الجائزة الثانية في مهرجان دبي السينمائي 2009، على نكء أحد أقسى الجراح الفلسطينية، ألا وهو جرح اختطاف المشروع الصهيوني للطائفة الدرزية في فلسطين، وفرض التجنيد على أبنائها. كما يندرج "العودة الى الذات" الذي نال إعجاب نقاد عرب وأثار جدلاً بينهم، في أكثر المواجهات ضراوة مع الذات وأكثرها شجاعة أي مواجهة التشوّهات التي صنعها العنف الاستعماري.
يتناول الوثائقي التناقضات والصراعات التي يعيشها يامن مع محيطه العائلي المنتمي الى الطائفة الدرزية. فما زالت عائلة يامن تعيش مأساة الفقدان لأخويه اللذين قتلا في حروب إسرائيل العدوانية خلال خدمتهما في جيش الاحتلال، من جهة. ومن جهة ثانية، تتمثّل مأساة هذه العائلة بما يفعله يامن الذي يضرب بعرض الحائط كل ما تربى عليه من ولاء لدولة إسرائيل، متشبثاً بذاته العربية والفلسطينية التي غيّبت وحجبت عنه إلى أن شاء القدر "أن يتحرر على يد من كان سجّانهم"، كما يقول.
ويامن زيدان ابن الثلاثين ربيعاً من قرية بيت جنّ الواقعة في الجليل شمالي فلسطين المحتلة، هو مرآة تعكس حجم المأساة والتشرذم الذي خلقه الاحتلال الصهيوني للهوية الفلسطينية، محولا الضحية في كثير من الأحيان إلى جلاد ذاتها. فبعد أن كان سجانا في سجن "هداريم"، والمسؤول عن القسم الأمني رقم 3 أي القسم ذاته الذي قبع فيه عميد الأسرى اللبنانيين المحرّر سمير قنطار، والأسير الفلسطيني مروان البرغوثي... شاءت الأيام أن يتحول يامن إلى محامي الدفاع عن قنطار والناطق الرسمي باسمه.
اتخذ يامن قراره الحاسم بترك مهنته كسجان حين أشرف على إنهاء دراسة القانون. وفي احد آخر أيامه التي قضاها كسجان، بينما هو جالس يتبادل أطراف الحديث مع الأسير سمير قنطار، باح له بما يدور في صدره بأنه ينوي ترك عمله في السجن ليمارس مهنة المحاماة في الدفاع عن الأسرى الأمنيين وحقوقهم، فكان رد القنطار عليه "سأكون أنا أول من يوكلك لتكون محامياً عني". ورغم أن الفيلم نجح في تسليط الضوء على مسألة لا يعرفها غالبية سكان البلدان العربية، وهي مسألة إنسانية قبل كل شيء، ورغم بساطة الفكرة وذكاء المخرج في التعامل معها كونه لم يأخذ موقفاً معيّناً من القضية المثارة، لم يتطرّق الفيلم بشكل كاف إلى المرحلة التي تغيّرت فيها أفكار يامن الذي كان يطمح ليكون جندياً في جيش الاحتلال ظناً منه أنه يخدم "وطنه"، ثم تحوّل الى شخص يطالب بهويته العربية ويدافع عن الأسرى في السجون الاسرائيلية، ويعتبر أنه يجب أن ينتقل إلى الجهة الأخرى للصراع.
تطرّق يامن خلال الفيلم الى أن اختلاطه بالأسيرين القنطار والبرغوثي، جعلاه يعيد التفكير بهويته. غير أن هذه المرحلة الانتقالية والمصيرية في حياة الشاب لم يفرد لها المخرج مساحة كافية؟
فكرة الفيلم خطرت لابن بلدة الناصرة المحتلة، عندما قرأ تقريراً عن يامن زيدان في صحيفة "العنوان الرئيسي" الأسبوعية الصادرة في بلدته. "أثرت قصته بي، فاتصلت به والتقيته". وعلى عكس ما نعتقد لم تأخذ المفاوضات بينهما وقتاً قبل أن يوافق يامن على تصوير الفيلم.
فكرة الفيلم خطرت لابن بلدة الناصرة المحتلة، عندما قرأ تقريراً عن يامن زيدان في صحيفة "العنوان الرئيسي" الأسبوعية الصادرة في بلدته. "أثرت قصته بي، فاتصلت به والتقيته". وعلى عكس ما نعتقد لم تأخذ المفاوضات بينهما وقتاً قبل أن يوافق يامن على تصوير الفيلم.
"أظن أن صدقي في التعامل مع الموضوع وإيضاحي ليامن الرسالة التي سيحملها الفيلم هما السبب لموافقته".
وبدأ يوسف العمل على الفيلم الذي استغرق سنة وبضعة شهور، صوّر خلالها في مسقط رأس يامن "بيت جن"، وفي رام الله، والطريق الموصلة بينهما. وتولّى الانتاج نزار حسن لصالح قناة "الجزيرة الوثائقية" بدعم من وزارة الثقافة الفلسطينية.
"على الفيلم أن يثير الاسئلة لدى القيادات العربية"
ماذا أراد يوسف أن يقول من خلال يامن؟ هل أراد الدفاع عن انخراط الدروز في السلك العسكري الاسرائيلي والقول إنهم ضحايا؟ أم أن يقول أن قصة يامن عبرة للذين يريدون العودة الى الذات؟ يؤكد يوسف: "بالطبع لم أدافع عن انخراط الدروز في السلك العسكري الإسرائيلي بتاتاً، ولا يوجد أي مبرر لذلك". ويشير الى أنه "من خلال هذا العمل، أنظر الى مجتمعي وأفكر بحاله وبتركيبته الانسانيه. ومن خلال حالة فردية تكون مجازاً لمجتمعنا الفلسطيني في فلسطين المحتلة بأسره، بغض النظر عن الانتماء الديني لفئات شعبنا. على رغم أن الفيلم يتمحور حول شخص يامن زيدان ابن الطائفه العربيه الدرزيه، وواحد من أهدافه (الفيلم) ان لهجة التخوين لطائفه بأكملها هي ليست العلاج لداء انخراط العرب الدروز وغيرهم في المؤسسه العسكريه الإسرائيلية. ويامن زيدان كغالبية العرب الدروز في فلسطين كان متأثراً بالسياق الاجتماعي والتربوي الذي اكتسبه من محيطه الذي شتت له الهويه. وشاءت الاقدار ان اكتشف حقيقته كعربي فلسطيني وغيرت مجرى حياته. ولكنه ما زال يعيش الصراع والتناقضات بين ماضيه "المؤسرل" وذكرى أخويه القتلى، والحقيقه والعوده التي يعيشها اليوم".
يلفت بلال الى أن "الفيلم لا يُبرّئ أحداً من مسؤولياته ولا يدافع عن أحد، وفي الوقت نفسه لا يُحمّل مجموعة بكامله الذنب. بل يتناول حالة انسانية بأبعادها السياسية والاجتماعية والاخلاقية، اي حالة الضياع وتشتت الهوية التي يعيشها أبناء شعبنا والتي لا تضر بمن يتجندون بالجيش الاسرائيلي فحسب، بل هي جزء من منظومه حياتيه تؤدي الى تبديد الهوية لأبناء شعبنا، بدءاً بضياع اللغة وضياع الذات والروايه التاريخية وغيرها". ويضيف بلال: "لا شك في أن الفيلم يجب أن يثير الاسئلة لدى القيادات السياسية والروحية للطائفة الدرزية ولدى القيادات العربية قاطبة، إذ أن الدروز العرب هم جزء لا يتجزأ من هذا الشعب".
"أنا لا أحترق بالهوية الإسرائيلية"
هذا الفيلم الذي حصد الجائزة الثانية في مهرجان دبي السينمائي السادس، وكذلك حصد إطراء وإعجاب النقاد كونه صادق وفريد، ماذا قدم لبلال يوسف في بداية مشواره السينمائي؟ وماذا قدّمت الجائزة لهذا الشاب الفلسطيني الذي يحترق بهوية اسرائيلية ومحاصر داخل الأراضي المحتلة؟ يُجيب: "بالطبع "العودة إلى الذات" قدم لي الكثير جدا. هذه هي الانطلاقة الأولى لدي إلى العالم العربي والذي هو امتدادي الطبيعي والفطري. واشتراكي في مهرجان دولي كبير كمهرجان دبي بحد ذاته هو انجاز مهم بالنسبة لي. فكم بالحري إذا توجت هذا الاشتراك جائزة كالتي حزت عليها بغض النظر عن المبلغ المادي".
ويؤكد بلال: "أنا لا أحترق بالهوية الإسرائيلية، بل أحرق غيري بهويتي الفلسطينية. بدءا بمن باعوا فلسطين وانتهاءً بمن احتلوها. عندما أسأل عن خصوصية بقائي في وطني في ظل الاحتلال الذي يفرض علي بطاقة هويته وجواز سفره وكيفية تعاملي وتعايشي مع هذه الوضعية فأجيب بقول الشاعر الكبير أحمد مطر: "ما عندنا خبز ولا وقود ما عندنا ماء ولا سدود ما عندنا لحم ولا جلود ما عندنا نقود. كيف تعيشون إذاً؟ نعيش في حب الوطن. الوطن الماضي الذي يحتله اليهود والوطن الباقي الذي يحتله اليهود.... فيم بقاؤكم اذا؟ بقاؤنا من أجل أن نعطي التصدي حقنة، وننعش الصمود لكي يظلا شوكة في مقلة الحسود"".
وحول كتابة السيناريو الذي يعتبره يوسف العمود الفقري للفيلم، يرى أن "هناك من لا يعيرون أهمية بالغة لسيناريو الفيلم الوثائقي لأن المشاهد تأتي تباعا وطبقا للحالة التي يتواجد بها بطل الفيلم. وعليه فإن السيناريو ينقلب أحيانا رأسا على عقب". ويوضح أن "هذا توجه خاطئ ومرفوض فمرحلة البحث والديناميكية التي يخلقها المخرج مع بطل الفيلم هي الأساس لبناء سيناريو جيد يخدم مراحل تصوير الفيلم ويجعل له محورا ومبنى واضحين. العودة إلى الذات بالنسبة لي تعني "صراعاً". هذا هو الخط الموجه الذي ارتكزت عليه عملية البحث وكتابة السيناريو والعمل على إيجاد المشاهد الأكثر نجاعة لتعكس هذا الصراع".
ستبقى القضية الفلسطينية في الصدارة
منذ بداية مشواره الفني رغم قصره، تناول بلال القضية الفلسطينية، فهل يريد التخصّص بإخراج أفلام تتمحور حول القضية وحول عرب الداخل؟ يقول: "لنبدأ أولا بأنني لا أعترف إطلاقا بهذه الترمنولوجيا والتعريفات التي التبست على الكثيرين حتى علينا نحن. "عرب داخل" أو "عرب 48" أو كما يقال على المعابر في بعض الدول العربية التي أبرمت اتفاقات سلام مع الاحتلال "عرب إسرائيل". لم أكن موالٍ لإسرائيل في يوم من الأيام كي أكون من عربها. فيلمي الأول "عبر الحدود" يتناول قصة نضال نسائي سياسي وهو بعد ومجاز لقضية المرأة في أي مدينة عربية كانت أم غيرها، لكن بالطبع مع تسليط الضوء أكثر على قضايا النساء العربيات والفلسطينيات على وجه التحديد. من خلال الأفلام أنا أروي ما يدور في عقلي وقلبي وما دامت القضية التي تشكل معاناتي وحياتي اليومية هي التي تستحوذ مشاعري وتفكيري فستبقى هي في الصدارة. لأكون مرآة صادقة ومعبرة لشعبي وهمومه وتطلعاته وأحلامه. لن أتعالى على نفسي وما تعيشه في سبيل أن أتناول المواضيع المتعددة من خلال الأفلام. أنا صاحب قضية وقضيتي صادقة. هذا لا ينفي انه من الممكن أن أتناول مواضيع تستحوذني لا علاقة لها بالسياق السياسي. ولكن ما هو ملفت هنا أن السياق الاجتماعي في فلسطين او لربما غيرها هو نتاج السياق السياسي".
وحول ما إذا كان الفيلم الوثائقي العربي يخدم القضية الفلسطينية، يرى بلال أنه "في نهاية الأمر صناعة الأفلام والسينما هي فن وفن معبر جدا. وما دام توظيف هذا الفن في سبيل خدمة القضية من منطلق صادق، معبر ومهني فلا شك أن يفيدها".
"لا أعوّل على الغرب، أحاول أن أصل إلى مجتمعي العربي"
ولكن ما هي المواضيع التي ينوي بلال تصويرها والغوص فيها في أفلامه القادمة؟ يشير الشاب المتشبّث بحقه وعروبته، الى أن "تناولي لمواضيع الأفلام يكون بناء على خلجات صدري وما يكتنفني من تفكير ومشاعر. فمثلا "عبر الحدود" والذي يروي قصة نضال نساء للحصول على حقوقهن وتحقيق الذات جاء في أعقاب وفاة والدتي التي خلفت وراءها العديد من الأسئلة عندي لم يسبق لي من قبل أن طرحتها. ومن هنا تبلورت لدي فكرة هذا الفيلم الذي لم أكن لأصنعه لولا وفاة أمي".
إذن هل يعتبر بلال يوسف أن الفيلم الوثائقي العربي صار وسيلة فعالة لنقل هذه القضايا الانسانية الى الخارج، والخارج هنا أي العالم العربي والعالم الغربي؟ يقول: "صراحة لا يهمني الخارج والغرب مثلما يهمني داخلي وعالمي العربي. المآسي التي نعيشها والمشاكل التي نعاني منها، بحاجة إلى علاج وحديث مجتمعي واسع لحلها أكثر مما يتطلب تغيير نظرة الغربي إلى العربي أو إلى المسلم. عدا أن الغرب والاستعمار الغربي في بلادنا خلّف وما زال يخلف وراءه الكثير من المصائب بشكل مباشر أو غير مباشر على مجتمعنا. لست بحاجة أن ابرر نفسي لأحد. لم أصنع الحرب العالمية الأولى ولا الثانية. وأميركا التي تعلم العرب والشرق الديمقراطية وأسس الحياة الصالحة اليوم هي نفسها التي كانت تمنع السود من الجلوس في مقاعد الباص الأمامية قبل عقود قليلة من الزمن. أنا لا أعول كثيرا على الغرب أو بالأحرى على الفن كي يدغدغ مشاعر الغرب ما دامت دماء الأطفال التي سالت على شاشات التلفاز في بث حي ومباشر في غزة ولبنان لم تدغدغها".
ويؤكد بلال أن الفيلم الوثائقي قادر على أن يحمل معه العديد من الرسائل والقضايا الإنسانية إن كان للغرب أو غيره. ولكن "في أفلامي أحاول أن أصل إلى مجتمعي العربي وأحاوره من خلالها. من هنا أعتبر السينما، فن ولغة عالمية تحاور جميع الشعوب والقوميات والفئات".
بلال يوسف في سطور
درس بلال يوسف السينما في كلية غور في الأردن الواقعة شمال مدينة طبرية، وحاز على المرتبة الأولى. عندما دخل الجامعة انطلقت الانتفاضة الثانية فأخرج فيلمه القصير الأول من وحيها بعنوان "الأخوة العرب يبكون أيضا"، الذي يروي قصة أحد الشهداء الثلاثة عشر الذين قتلوا على يد قوات الإرهاب الصهيوني في فلسطين المحتلة عام 1948. وعمل بعد ذلك على فيلمين طويلين، الأول "عبر الحدود" الذي يروي قصة امرأتين هما عايشه صيداوي وأميمة أبو راس اللتان تحاولان الحصول على حقوقهما في المساواة بين الرجل والمرأة، إلى جانب نضالهما السياسي ومحاربة الاحتلال. وإلى جانب عمله كمخرج، يُدرّس بلال السينما أيضا في ثانوية راهبات الفرنسيسكان في الناصرة وكفر قرع.