بقلم النائب المحامي سعيد نفاع
لو طبعنا ما قيل على ورق وكدّسناه فوق ما كتب في وعن المفاوضات الإسرائيليّة الفلسطينيّة لضاهى في علوه واتساع قاعدته جبال الهملايا وناصيتها الإيفيرست، لدرجة يصعب على من يريد أن يفش غلّه في كلمة أن يجد لغلّه مكانا، ومع هذا أود أن أفش غلّي وما أحوجنا لذلك في هذه الأيام وليفتّش هو عن مكان له حتّى لو في هضاب التيبت الواسعة شمال الهملايا.
المشترك بين المؤيدين الدخول في المفاوضات الإسرائيليّة الفلسطينيّة والمعارضين هو أنها لن تتمخض عن شيء، ولكن المختلف فيما بينهما وبتفاوت هو عبثيّتها ومن هذا الباب يصير الداخل فيها والمؤيّد لها عبثيّا متدرجّا بين الجهل والكفر وما بينهما، والمعارض لها متدرجا بين المعرفة والنبوة وما بينهما.
يدافع القابل بها عن نفسه بالبراغماتيّة بديلا غير منتظر إلى "أن يقضي الله أمرا كان مفعولا"، ويدافع المعارض متعللا بالتناحريّة (تناحريّة الصراع) وينتظر إلى "أن يقضي الله أمرا كان مفعولا" ففي الانتظار هما شريكان لكنهما مختلفان في المطلوب في زمن الانتظار. صحيح ما قيل أن بين البراغماتيّة والخطورة التي تحمل وبين الانتهازية الخطرة بحدّ ذاتها شعرة، ولكن بين البراغماتيّة إن لم تتخطّ الشعرة ولا نراها على الأقل حتى الآن متخطيّة، وبين العمالة والخيانة وال"بيعة" والكفر المسافة طويلة.
أدّعي أن في هذه المقدمات الفلسفيّة أو التفلسفيّة وسمّها ما شئت، "مقبور الكلب" كالمقولة المنتشرة بين أبناء عمّنا إسحاق. الغالبيّة فينا وفيهم تعتقد وحتى النخاع أن الصراع بيننا تنحاريّ كالمقولة الماركسيّة ولا حلّ له إلا بزوال أحد الفرقاء كيانا وليس جسدا، والسؤال الذي يشغلنا ويشغلهم في هذه الفترة البينيّة، ما العمل؟!
يتحرّج البعض من استعمال التكنيات العرقيّة ويستعيض عنها بتكنيّات سياسيّة خوفا من اتهامه بالعنصريّة، وأنا لا أنوي الاستعاضة، فاليهود بأكثريتهم العظمى والساحقة يؤمنون حتى أعماق أعماق عقولهم وقلوبهم أن وجودهم على هذه البقعة من الأرض ككيان كدولة، ليس كإناس، غير مسلّم ولا يمكن أن يسلّم به لا الآن ولا في المستقبل على يد العرب والمسلمين، وفي هذا الإيمان الكثير من الصحّة، ولذلك فبقاؤهم لن يكون إلا على حدّ سيوفهم كما قال أحد أنبيّائهم، ومن هنا مرجعيّة أي كان منهم للمفاوضات صهيونيّا يمينيّا أو صهيونيّا يساريّا، والفارق بينهما ربمّا يكون في براغماتيّة متفائلة أو متشائمة ليس إلا.
لذلك لا توجد عندهم النيّة ولا يمكن أن توجد لحلّ، وصدق من قال أنّ أقصى ما يستطيعونه هو إدارة الصراع بال"تنازل" في قاموسهم، عن بعض حقهم الإلهيّ في أرض إسرائيل وهنا يختلفون حول مدى التنازل، ولكن أكبر "المتنازلين" منهم لا يقترب من الحدّ الأدنى للثوابت الفلسطينيّة، ولك في رفضهم المبادرة العربيّة السخيّة جدا البيّنة.
ليس الحال عند الفريق الآخر، نحن، بمختلف، ولو خُيّرنا نحن حتى عرب ال-48 الذين حسمنا بغالبيتنا قبول دولة إسرائيل والعيش فيها على علاتها المعوّضة، وما نقاشنا إلا حول شكل هذا الوجود ولك في التصورات المستقبليّة التي حُضرت قبل فترة وجيزة البيّنة مهما حاول بعضنا أن "يتجمّل" بالشعارات، ورغم ذلك لو خُيرنا بين هذا وبين أن نرى هذا الكيان مختفيا في ليلة "ما فيها ضوء قمر" لاخترنا اختفاءه، لكننا اخترنا براغماتيّة بلغت في الكثير من المواقع الانتهازيّة، فلماذا يستكثر بعضنا على أشقائنا في ال-67 بعض براغماتيّة ونطالبهم من شرفات منازلنا ألا يفاوضوا إن لم نتهمهم بالانهزاميّة والعمالة وحتى بالكفر بمجرد أن يدخلوا المفاوضات براغماتيّا؟ وبديلنا وقفها وهبّة شعبيّة دون أن يكون عندنا أدنى الاستعداد بمؤازرتهم بهبّة توأميّة فلا تكفي "الهبّات" لا الأخويّة ولا الشقيقيّة!.
هذان هما الموقفان الحقيقيان وكل منّا أبناء إسحاق وأبناء إسماعيل نعرفهما حقّ المعرفة ولذلك لا مجال أمامنا في نجاح مفاوضات بين متناقضات تناحريّة كانت وما زالت وستبقى، ولكن في اختيار البدائل كل منّا مختلف والفرق أن اختلافنا قطبيّا لا يمكن الجسر بين شقيّة واختلافهم مداريّا بين السرطان والجديّ لا يتعداهما ويلتقيان عند خط الاستواء بين الفينة والأخرى.
في تصوّر لي سابق نشرته تحت عنوان "سيباريت بط جويند وحل الدولتين" والحال هذه التي أدّعي، قلت لا مجال إلا دخول المفاوضات وليس من يدخلها أو يؤيّدها لا عميلا ولا بائعا ولا كافرا، وقلت بما معناه أنه عندما يصير بحث زوال هذا الكيان على شاشات الردارات صنع أيدينا وليس على شاشات التلفزيونات صنع أيديهم لن تكون المفاوضات إن نتج عنها شيئا أو لم ينتج عائقا أمام المعارضين ولن يقف المؤيّدون في وجههم.
فالقضيّة ليست بين مبدأيات وعدمها القضية بين براغماتيات وعدمها، إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا!.