بقلم: نايف خوري
إنه الكتاب الخامس الذي يصدر للشاعر كمال إبراهيم، فقد أصدر من قبل حديث الجرمق، أنا وأنت والشعر،دراسات في الأدب، الفجر الأزرق وآخر النفق. وسأتناول هذا الأخير في هذه العجالة، من خلال ما نظمه الشاعر من قصائد مميزة ومختلفة.
وأول ما يلاحظه القارئ في هذه المجموعة الشعرية أن كمال ابراهيم يكتب باسلوب واضح تغلب عليه البساطة والفطرة بعيدًاعن الغموض والإبهام،ويتميزهذاالشعربأنه يختلف عن الكلام العادي بسحرالكلمة وعذوبة المعنى، فيستهل المجموعة بقصيدة مناجاة التي يمكن أن تصبح صلاة ومخاطبة للخالق. وتتلوها قصيدتان: "كن بشوشًا" و"أيها الشافي" فتتبادر إلى ذهنك قصيدة إيليا أبي ماضي كن جميلاً ترى الوجود جميلا، وأيهذا الشاكي كيف تغدو إذا بدوت عليلا. وهذا من شأنه أن يقارب بين أفكار الشاعرين السابق واللاحق للتأكيد على أهمية الفكرة والدعوة لممارستها على الصعيد الاجتماعي والفكري والإنساني. وربما ينظر القارئ إلى أخطاء مطبعية في هذه القصيدة حيث يبدو وكأن الشاعر لا يفرق بين التاء المربوطة والهاء. ولكن الشاعر جعل التاء المربوطة هاءً لتسكين لفظها والمحافظة على ميزانها التناغمي وجرسها الموسيقي. وصحيح أن الأخطاء المطبعية القليلة يمكن تلافيها، ولكن القارئ الفطن يدركها مباشرة. وعلى سبيل المثال بعض الكلمات التي تبدو للوهلة الأولى بأنها لا تأخذ مكانها في السياق اللغوي كقوله "أشهى الحكماء" في قصيدة "في زمن الذرة" فيظن القارئ أن الكلمة يجب أن تكون أشهر وليس أشهى، وأن الخطأ هنا مطبعي، ولكن الشاعر قصد كلمة "أشهى" لأقوال الحكماء، وكأن أقوالهم غذاء شهي للروح والنفس، فهذه التورية بالألفاظ والكلمات تضفي نوعًا من الحوار الذاتي مع القارئ والتساؤل مع الشاعر لكي يثير مناقشة موضوعية وجدلية فكرية. أما في قصيدة "أسعد والحمامات الخمس" صفحة 30 فقد وردت كلمة "يحذوه" الأمل، وهو يقصد "يحدوه". وهناك خطأ بالنحو في القصيدة ذاتها بقوله: "ونجت حمامتان، ذكرًا وانثى"، ويجب القول ذكر وانثى.
وفي ما عدا ذلك، فالديوان يطفح بالمواضيع التي عالجها الشاعر من خلال الحياة اليومية، وأعتقد بأنه أبدع في صوره الشعرية ومعانيه التفاؤلية وأفكاره التي يريد لها النور في آخر النفق. ولننظر إلى القصيدة التي تحمل عنوان المجموعة، آخر النفق وإلى مدى عمق فكرتها وجمالية التعبير عن ذلك. أما قصيدة حب الوطن التي ذيّل فيها الديوان، فكل كلمة فيها، وكل جملة وكل سطر يشعر القارئ بمداعبات لطيفة وقشعريرة ممتعة تسري في أوصاله، وبالتالي يسمو الشاعر بمعانيه في هذه القصيدة نحو اللا متناهي.
لاحظت من قراءتي للديوان بأن الشاعر يطرح أفكارًا مختلفة عما سبق من مؤلفاته، كما أنه يحافظ على الميزان التناغمي والتناسقي العام ذي القوالب غير المحدودة، بصورة تجعل قصائده متينة السبك وقوية المعاني. وهذه الوحدة تظهر جليًا في وحدة الموضوع، فالموتيفات التي تعود بمعانيها إلى المضامين تنساب مع الأفكار الواقعية والمحسوسة وغير المجردة أو الفكرية من عالم المطلق. فالتطرق للقضايا الواقعية من شأنه أن يزيدها رفعة ويمنحها عمقًا جديدًا. فقد يعتقد القارئ لأول وهلة بأن الشاعر يتناول هذه القضايا التي قد تبدو بسيطة، أو ساذجة أو سهلة العلاج، ولكنه يسبغ عليها بعدًا غير ما نعهده فيها.
إن المبدع في الشعر والأدب والفن يجب أن يسكب عصارة فكره وفنه وإبداعه في كل قطعة إبداعية تنجبها بنات أفكاره، وهو غير معذور بالقول سأبذل ذلك في العمل القادم، لأن الإبداع لا يحتمل التأجيل ولا التسويف، فكل إبداعية هي بمثابة جزء متكامل من المبدع وتعبر عنه بأفكاره وأحاسيسه ومشاعره وكيانه، وبالتالي تعكس صورته أمام القارئ أو المتلقي، وهذا قد يؤثر سلبًا أو إيجابًا، ولذا يجب على كل مبدع أن يبلغ قمة جديدة في إبداعه الذي أنجزه حتى الآن، لينتقل إلى قمة جديدة في إبداعه القادم والذي يجب ألا يقل عما سبقه. هكذا أبدع كبار المفكرين والفنانين والشعراء والأدباء والمبدعين عمومًا. وفي هذا السياق آمل بأن إبداعية الشاعر كمال إبراهيم "آخر النفق" تصبح لبنة متينة في مجمل أعماله وإبداعاته الشعرية القادمة.
( نص المداخلة التي قدَّمها الإعلامي والكاتب نايف خوري في ندوة أقامها منتدى الحوار الثقافي حول إنتاج كل من وهيب نديم وهبة وكمال ابراهيم في "البادية" في عسفيا بتاريخ 27.4.2009 )
