بقلم : منير فرّو
قال الله تعالى "فذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين" وقــــــــال الشاعر :
مثل لنـــفــــسك أيـهــا الــمــغــــرور يــــــــــــــوم القيامة والسماء تمور
قد كورت شمس النهــــــــــار وأضعفت حــــراً على رؤوس العباد تقور
وإذا الجبــــــــــــال تعلقت بــأصـــولـــــهــــا فرأيتها مثل السحاب تسيرُ
وإذا النجوم تســاقـــطـــت وتنــاثرت وتبدلت بعد الضيــــــــــــــاء كدورُ
وإذا العشار تعــطــــلـت عــن أهلها خلت الديــــــــــــــار فما بها معمورُ
وإذا الوحوش لدى القيــــــــــــــــامة أحضرت وتقول للأملاك أين نسيرُ
فيقال سيروا تشهدون فضـــائـــــحاً وعجائباً قد أحضرت وأمـــــــــــورُ
وإذا الجنين بأمـــه مـــــتـــــــعـــلقٌ خوف الحساب وقلبه مذعــــــــــور
هذا بلا ذنــب يــــخــــــــاف لـهـوله كيف المقيم على الذنوب دهـــور؟؟
النار هي احد العناصر أو الأركان الأربعة الأساسية التي تتركب منها الطبيعة، والتي تبطل المادة ويتلاشى الكون بفقدانها، ولولا النار لتجمد كل ما في الكون، وانعدمت الحياة، ولكن حكمة الله في خلق الكون أن يكون في غاية من الإتقان والكمال، دلالة على عظمته وقدرته، وانه لا يفوقه شيء، وهو العادل بالحكم، ومنزه عن الجرم،
وهذه الأركان هي النار والهواء والماء والتراب، وهي تمثل الأربع طبائع الحرارة: والبرودة والرطوبة واليبوسة، وكل طبع منها هو طبع لكل ثلاثة بروج من البروج الاثنعشر، وهذه البروج وطبائعها لها تأثير على طبيعة ونمو الأجسام والكائنات الحية، من إنسان وحيوان ونبات ومعادن، والطبائع الأربعة تمثل الفصول الأربعة: الصيف الشتاء الربيع والخريف، وأيضا تمثل الأخلاط الأربعة في الجسم، والتي إذا اختل خلط منها كان سبب في إحداث مرض قاتل، وكل خلط له لون مما يساعد على تشخيص المرض، وهي: الصفراء والبلغم والدم والسوداء، وتمثل الرياح الأربعة الصبا والدبور والجربياء والتيماء، وأيضا تمثل الجهات الأربع الشرق والشمال والغرب والجنوب،
والنار تستعمل في كل شيء، وهي ضرورية ونحتاجها يوميا، وعلينا أن نكون حذرين منها، لأنها بقدر منفعتها تتضاعف مضرتها،
والنار في الحقيقة هي دار الهوان، ودار الانتقام من أهل الكفر والعصيان، وموضع العذاب، الذي توعّد اللّه سبحانه وتعالى به في الدنيا، للعصاة والمجرمين، ومنتهكي الحرمات، ومرتكبي المحرمات، والمتعدين الحدود، والمتكبرين والمكابرين لما جاء به الأنبياء والرسل هداية للعالمين. قال تعالى:" إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها ; وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه . بئس الشراب وساءت مرتفقا(الكهف)" .
إن أول ما يواجهه العبد من أهوال يوم القيامة يكون عند نزع روحه من جسده، فخروج الروح إيذانًا ببدء الرحلة إلى الدار الآخرة وما فيها من أهوال وفزع، لان الدنيا هي مزرعة أعمال الآخرة، وكل شيء في الدنيا من سعادة روحية أو بدنية من هناء وغبطة وسرور وسعادة وراحة ومأكولات ومشروبات وشهوات دنياوية يُذ ّكر بنعيم الآخرة، وأيضا كل حيرة وقلق نفسي أو عذاب جسدي من مصائب أو جزع أو هلع أو خوف أو رعب أو انقطاع أو أياس أو فقر أو تقطع أسباب أو أوجاع بدنية عظيمة أو أمراض جسمانية مزمنة وعقوبات نازلة من حريق أو غريق أو من تعاسة وحزن ومقت وألم يُذ ّكر بعذاب الآخرة، ولكن شتان بين النعيمين وبين الجحيمين، لان الله تعالى اعد للمؤمنين الصابرين نعيما، ما عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر،
وأيضا اعد للكافرين الظالمين عذابا، ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ولكن العاقل الديان الضمآن يكفيه من ماء المعرفة والخوف أيسره، والجاهل اللاهي والسكران لا يعلق عنده من العبر والمواعظ مهما تكررت وبلغت نحوه، فهو كالحجر الجلمد الذي يخرج منه الشرار ولو بقي في الماء مدى الأيام والدهور، فهو لا يترطب بالماء، ويبقى قادحا للنار،
فنفس العاقل المؤمن مطمئنة بالإيمان، معتبرة بكل ما تلحظه العينان، والنفس الكافرة الجاحدة بالنكران، أمارة بالسوء تتحجر وتقسو عند سماعها المواعظ لغلبة الآثام والران،
قال تعالى في كتابه المجيد : " يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيءٌ عظيم . يوم ترونها تذهل كل مرضعةٍ عما أرضعت وتضع كل ذات حملٍ حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد "، مطلع عنيف رعيب ، ومشهد ترتجف لهوله القلوب . فالآية الكريمة بدأها تعالى بالنداء الشامل للناس جميعاً : يا أيها الناس يدعوهم إلى الخوف منه ويقول لهم : اتقوا ربكم ويخوفهم ذلك اليوم العصيب واصفا يوم القيامة بالزلزلة قائلا : إن زلزلة الساعة شيء عظيم .وهكذا يبدأ بالتهويل المجمل ، إنها زلزلة . وإن الزلزلة شيء عظيم ، من غير تحديد ولا تعريف . ثم يأخذ في التفصيل . فإذا هو أشد رهبة من التهويل . . إذا هو مشهد حافل بكل مرضعة ذاهلة عما أرضعت تنظر ولا ترى ، وتتحرك ولا تعي . وبكل حامل تسقط حملها للهول المروع ينتابها . . وبالناس سكارى وما هم بسكارى ، يتبدى السكر في نظراتهم الذاهلة ، وفي خطواتهم المترنحة . . مشهد مزدحم بالصور المفزعة وهو هول حي لا يقاس بالحجم والضخامة ، ولكن يقاس بوقعه في النفوس الآدمية : في المرضعات الذاهلات عما أرضعن وإلقائهن حملهن دون أن تشعرن، وبالناس سكارى وما هم بسكارى : " ولكن عذاب الله شديد " .
فلو عدنا في مخيلتنا قليلاً إلى الوراء، وإلى تلك الأحداث، ومشاهد الحريق الهائل، الذي نشب في كرملنا العزيز الأخضر وكاد أن يلتهمه بما فيه كما يلتهم الحوت في بطنه الأسماك، والتي لم تبرح من مخيلتنا بعد لغرابتها وشدة هولها، ولما أحدثته من شعور بالرعب والخوف والهلع والاضطراب وخفقان القلوب من لهيب ألسنتها وتصاعد أدخنتها التي زادت عن الخمسين متر، والتي كانت تستعر وتلتهم كل ما يعترض طريقها، وكان أصعبها وأفدحها التهام النيران للحافلة وركابها، ومن كان يسير ورائها من سيارات الشرطة، مخلفة الحسرات والآهات والغصات وانهمار العبرات في قلوب الأهل والأصحاب، والى تلك الغمامة وغبش الدخان والرماد المتطاير التي غطت السماء وقرص الشمس لعتمتها وسوادها، وكأنها دخان أو لافا تخرج من فوهة بركان، أو كأنها انفجار نووي، وأيضا ما أحدثته من بلبلة في نفوس الناس ورجال الأمن والإطفاء والمسؤولين في الدولة والأهالي ومحبي الاستطلاع وحتى المشاهدين من خلال وسائل الإعلام المرئية، وقد دب فيهم الخوف والرعب لما رأوه من مشاهد مرعبة لتلك الألسنة من النيران، فكنت تراهم مرتبكي الوجوه وعلامات الحيرة والقلق بادية على وجوههم الشاحبة، لا يدرون إلى أي الاتجاه يذهبون والى اين يهربون من حريق النار، فكلما هربوا من النيران أو أخمدوها كانت تفاجئهم من أمامهم ومن خلفهم ومن فوقهم ومن تحتهم وكأنها شبح مرعب يتنقل بسرعة البرق ويخرج بأشكال متنوعة ومرعبة، أو كأنه شيطان بسبعة رؤوس بل أكثر، كقوله تعالى : " كلما خبت زدناهم سعيرا"،
هكذا كان حال معظم من شاهدها من جميع أقطار المعمورة من خلال وسائل الإعلام بالصوت والصورة، .فمثل تلك النيران التي اجتاحت الكرمل ودبت الهلع والفزع بالناس، كمثل مصغّر لأهوال يوم القيامة والتي تقاس بخمسمائة عام، حيث ترى الناس يترنحون ذات اليمين وذات الشمال، ويتولولون ويتحيرون وكأنهم سكارى ولكنهم ليسوا بسكارى، بل لشدة هول يوم القيامة، ونزول الصاعقة على المكذبين الجاحدين لذلك اليوم الموعود،
هذا مثل بسيط للناس لتدرك نزرا يسيرا مما سيفاجئهم به الزمان، ويقفون أمام الخالق يوم نصب الميزان، حيث تقشعر الأبدان، وتصطك الأسنان بالأسنان، وترتجف المفاصل اليدان والرجلان، حيث تجازى كل نفس بما كسبت في ماضي الأزمان ، عندها لا يظلم الله إنسان،بل كل يلقى عمله دون زيادة أو نقصان،
والسؤال ماذا أعددنا لأهوال يوم القيامة ؟ أم أن عندنا شك في هذا الكلام ؟ كلا ، إنه كلام الحق ليس فيه باطل ولا تكذيب، لان كل ما وصفه تعالى في كتابه سوف يقع بتفاصيله وصوره لا محالة ، ولا ينفع الإنسان إلا ما قدم ، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر،
فأعمارنا محسوبة، وأيامنا معدودة، وكل ساعة محاسبون عليها، فماذا أعددنا ؟ جعلنا الله ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، والحمد لله على ما ساء وسر، ونفع وضر، وهو العادل في الحكم، البعيد عن الظلم، المسامح على عظيم الجرم، بالتوبةعن الإثم، أعاذنا الله وإياكم من نار الدنيا ونار الآخرة انه السميع والمجيب .