كنت في وقت مضى قد تناولت بإعجاب بعض نتاج الشاعر المبدع شفيق حبيب ، وها انا التقي معه مجددا في قصيدة جديدة عنوانها " على شاطئ السبعين " نشرها بمناسبة بلوغه العقد السابع .
يسعدنا أن تمتد به الأيام حتى يرى ما تمناه في قصيدته " أسائل عمري هل سيمتد كي أرى / زغاريد ارضي في خواء الخرائب " .
ستة وعشرون بيتا من البحر الطويل قصيدة موزونة تماما يمتاز مطلعها بما يسمّى "التصريع "
المستحسن في الشعر العمودي ، دأبنا على قراءته عند الشعراء الكبار " على شاطئ السبعين حطت مراكبي / وناءت بأعباء الرزايا مناكبي " .
استهلال رائع يليه موقف أروع في التعبير عن الصمود وحب الوطن " مخرتُ عباب الليل والويل شاعرا / ولم يثنني قهر وأحقاد غاصب / أحب فلسطيني وأهلي وارضها / إذا مسّهم ضرّ ، تنادت كتائبي " .
يتابع شاعرنا ، ولعل في ذهنه قول محمود درويش : وطني ليس حقيبة ، وانا لست مسافر .
" وتترى عقود والليالي ثقيلة / وما زال شعبي نازلا في الحقائب " .
هذا البيت لشفيق حبيب يعاني من الضعف بالقياس عمّا سبقه من أبيات قوية ثائرة . وكذلك البيت السابع " أرادوك سقّاء وطفلك حاطبا / واصبحت فأرا عندهم للتجارب " .
لو افترضنا ان هذا البيت مدماك لتصدّع وأضرّ بكل البناء . لم أفاجأ بصدر البيت ، ولم استسغ " أصبحت فأرا " !
وأين هذا البيت من البيت الحادي عشر والذي اعتبره البيت المحور بالنسبة للموضوع الأساس .
" تمرّ بي الأيّام والعمر نازف / وما زلت في السبعين غضّ الرغائب " .
يتجلّى حب الشاعر للحياة وتمجيده لها ، ثم شعوره بالشباب والعنفوان . ولعل هذا الاحساس هو ما فجّر قريحته لفتح صفحة المرأة التي تحظى عنده بمكانة كبيرة .
" عيون الغواني كم يعذبن خافقي / ويصرعني عمدا صدود الكواعب " .
صورة شعرية مثيرة ، الرغبة والصد ، الإندفاع والإخفاق ، التناقض في التشكيل وفي ملامح الزمن : الإمتداد النضوج والكم ( الشاعر ) ، والزهور البكر ( الكواعب ) مفرد : الجارية نهد ثديها .
ويستهويه هذا العشق حتى نراه يتعالى على سليمان " نشيد الإنشاد " ويتعالى على قيس !
" نشيد سليمان صدى في محابري / وأمطار قيس قطرة في سحائبي " .
ويزداد حماسه فلا يترك في الحي حسناء ، يعشق بالجملة !!
"عشقت حسان الحي عشقا مراوغا / وقاتلت حتى قيل : خير محارب " .
ولا يرى غضاضة في الخلط بين العشق الصوفي ، وعشق المرأة ، خاصة الفتاة اللعوب .
" تغنيت بالعشق الإلهي مدنفا / وعدت قتيلا في سيوف اللواعب " .
هذه المفارقة تحتاج الى التفكّر لتفسير ما قصده الشاعر . الصواب في نظري أن ندع المسألة مفتوحة .. وأن نلتفت الى براعة الشاعر في التمهيد قبل دخوله عالم الأنثى ؛ ربما ليحصّن نفسه من الظنون ...
" وإني جمبل النفس حرّ ، عفيفها / ولكنها تزداد شهدا تجاربي " .
من خلال معرفتنا به نقرّ له بهذه الصفة النبيلة ، ولا تفوتنا الإشارة أنه شاعر من أجل قضية يجسدها بموهبته المشبعة بالتجربة والمعرفة " أنا شاعر تغذوه آمال أمّة / وآلامها ، والحرف
ثرّ المواهب / زرعت على التاريخ رايات نصرها / ونكستها حين استبيحت ملاعبي " .
نلحظ بوضوح الفجوة الواسعة بين صدر البيت الثاني وعجزه . مصرعان متنافران بحدة !
ليته جعل عجز البيت موازيا لصدره فخرا وشموخا ، كما فعل النابغة الجعدي مفتخرا بقومه : بلغنا السماء مجدنا
وجدودنا / وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا .
وبخصوص القافية فإن الشاعر يتحكم بها في معظم قصيدته ، لكن بعض القوافي تخرج عن طوعه ، بمعنى انها تثبت من اجل القافية ليس إلا. كقوله على سبيل المثال " على جبهة الأيام تعلو قصائدي / وتبقى شهود العصر ، عصر النواكب " .
يعرف بدون شك ان الصحيح لغويا ( نكبات ) جمع نكبة ، وليس " النواكب " . لكنه اضطر لوضعها كي تستقيم القافية .
إن لشفيق حبيب صولات كثيرة في شعر التفعيلة ، لكنه في الحقيقة مولع بالشعر القديم ، ومن نتائج هذا الولع أنه في قصيدته هذه تنازل قليلا عن لغة العصر في وصفه الأخطار التي تحيق بأمّتنا في ظل الهيمنة والمكر وسطوة السلاح ، كقوله " شفار المخالب . ظلال الثعالب . طعام النواعب " . ومع ذلك تبقى هذه الألفاظ القديمة محببة الى نفوسنا من منطلق عشقنا للغتنا
العربية .
لعل دافعي الأول في نقد هذه القصيدة أن شاعرنا الكريم صادق الشعور صريح العبارة ، لدرجة أنك لا تجد في قصيدته فقرة واحدة ملتوية أو مخادعة ، لذلك نقرأ هذا النص المميز بكثير من التفاعل والتقدير .