قبل حوالي أربعة أشهر، وأنا أصعد درجات عمارتنا عائدًا إلى شقّتنا، فوجئت بقطّ صغير يربض على درجات الطابق الثالث. نظرت حولي فرأيت امرأة عجوزا تقف بمحاذاة القطّ. "شو اللي جابوا لهون"، قالت العجوز بنبرة ممتعضة. نظرت مرّة أخرى إلى القط فرأيت أن جسمه كان منتفخًا إلى درجة غير عاديّة. كان ذلك، على ما يبدو، نتيجة الجوع الذي كان يعاني منه. حمَلتُه إلى شقتي، وقد فعلت ذلك حزنًا وشفقة عليه.
تعرّف القط على "ميتسا" و"مَرينا"، القطتين اللتين نربيهما أنا وزوجتي في شقتنا، وصار واحدًا من أهل البيت، يتمتّع مثلهما بمأكولات طيبة ويحصل على الخدمات التي يحصلن عليها. سمَّيته "جيمي"، لأني لاحظت أنه يعدو بطريقة تشبه الطريقة التي يعدو فيها لاعب الكرة المعروف "جيمي تُرك". بعد مجيئه إلى بيتنا بفترة وجيزة، طوَّر "جيمي" شخصيّة واثقة من نفسها وسرعان ما سيطر على القطتين وأصبح زعيم قطط الشقّة.
مرّت الأيام وكبر "جيمي" وأصبح سلوكه غير محمول. إذ صار يلاحق القطتين الإناث ويزعجهن. عندها قررت زوجتي أن قطتين تكفيان في شقة متواضعة في الطابق الرابع، وأنه لا بدّ من ترحيل "جيمي" لمكان آخر. وفعلاً، فقد رتبت زوجتي الأمر مع صديقة أوروبيّة قبلت أن تأخذ "جيمي" وتربيه هي وصديقها في رام الله، وهذا ما حصل، فقد وضعت زوجتي "جيمي" داخل قفص صغير وسافرت به من حيفا إلى رام الله. بعد عودتها أخبرتني أن "جيمي" قد تأقلم سريعًا في المنزل الفسيح الذي يملكه صاحب صديقتها الميسور الحال.
ارتاحت القطتان الأخريان، كذلك ارتاحت زوجتي من مشاكل "جيمي"، وسرعان ما عاد الوضع في شقتنا إلى ما كان عليه قبل قدوم "جيمي" إليه. حين كنت أفكر في "جيمي"، كنت أتخيله يقطن في منزل فاخر في رام الله، يذهب ليأكل ثم ينزل إلى الحارة، حيث يتعرّف على قطط "رام اللاويّة" مناضلة، يتعلم منها كيف يلقي الحجارة، ثم يعود إلى بيته ويتمدّد على الكنبة ويفكر "أنا قطّ حيفاوي في رام الله. ربما أنّ لدي هدف سياسي!".
قبل يومين فوجئت بالخبر الذي خبرتني زوجتي عن أن "جيمي" قد توفى في حادث طرق. حزنت عليه كثيرًا وقلت لنفسي: "يا جيمي المسكين، يا جيمي السمين، لماذا ذهبنا بك إلى رام الله!؟ ألتحارب في شوارعها وتموت شهيدًا تحت عجلات السيّارات!؟"، ثم تمالكت نفسي وصرت أتساءل "هل كان ما حدث لـ"جيمي" صدفة؟ أم أن في قصّة حياته مغزى خفيًّا يمكننا استجلاءه والتعلّم منه؟". الإجابة التي كانت على لساني هي أن كل ما حدث له هو محض صدفة وأنه كان في آخر الأمر قطًّا عاديًّا لكن حظّه كان سيئًا. الفلسفة الوجوديّة التي أعتنقها لا تؤمن بالقدر ولا بـ"نظريّة المؤامرة"، بل هي تؤمن أن الظروف في كثير من الأحيان هي التي تقرّر مصير الحياة. لم يُكتب لـ"جيمي"، رحمه الله، أن يموت دهسًا، بل لقد كان قطًّا عاديًّا، أو ربما قطًّا عاديًّا منحوسًا
بقلم : فؤاد سليمان