ملامح مختزلة
تناهى الى سمعي أن السيدة امال قزل من قرية المغار شاعرة مبشرة ، الى أن رأيتها في ندوة تلقي قصيدة . فقلت في سري : لا بأس ! .
ثم وصلني ديوانها " خلجات في وجدان شاعرة " ، قمت بجولة بين دفتيه لأدرك أن لهذه الشاعرة مستقبل شرط ان تواظب على صقل موهبتها .
" في ذاتي ارحل / بين حياض الروح أتنقل / ابحث في هذا العالم المبهم / في هذا الصمت المطبق / وأجوب في المجهول " .
صحيح اننا نلمس هنا شيئا من الملمح الصوفي ، لكن لا نستطيع كبح تصوّرنا وكأن الشاعرة محاصرة في جزيرة نائية لا أثر للبشر فيها ! ، هل قرأتْ قصة روبنسون كروزو ؟ .
وتزداد الصورة تشاؤما وسوداوية في نهاية القصيدة " فمتى ، متى يا الهي / عن هذا الكون أرحل / واسافر دون رجوع / وعلى نعشي أحمل " .
قد يكمن عدم تجاوبنا مع هذا النص ، ان المبررات لهذه السوداوية لم تكن بالحجم الموازي لها ! .
وماذا يعني ان في مجتمعنا من يتصفون بأنهم من عصر الانحطاط ، وإن في محيطنا " ذئاب في ولائم النعاج " .
أعتقد ان هذا النص لا يعدو كونه حالة عابرة ، وإلا ما كنا لننتقل سريعا الى حالة من التفكير المتنافر ، تناقض صارخ بين هذه القصيدة وقصيدة أخرى مشبعة بالفرح وحب الحياة .
" عندما التقيك / تمطر السماء / ورودا وعشقا / وتمتلئ الأرض / أريجا وعطرا / وتحمل البحار / أسماكا ملونة " .
الملفت ان معظم قصائد الشاعرة طويلة ، أو مطوّلة عمدا .. تراني اضرب صفحا عن التراكمات التي تشكل أثقالا لا لزوم لها ، وأقتنص اللحظة الشعورية وكيف يتم التعبير عنها بما يتلاءم مع الرؤية والإحساس . تكفيني اللحظة التالية من قصيدة ابتلعت ثلاث صفحات .
" لو أنك مثلي / تعيش لحظة من سكون / تأخذ الطبيعة خليلا / والأفق همسا ونجوى " .
في هذا النموذج المخضب بالجمالية تظهر الرومانسية في إحدى صورها المختصرة : " هزيمة الذات أمام الواقع باللجوء الى الطبيعة كمدفن للأحلام " .
ومع ذلك فإن نزعة التمرد لدى الشاعرة واضحة وصريحة ، بما لا يدع مجالا للشك أنها تعيش صراعا أو أزمة .
" لا تلمني يا قدري / إن وقفتُ بوجهك أتمرد " .
تتلخص هذه الأزمة في معاناة المرأة العربية بشكل عام ، والشاعرة تولي هذه المشكلة جلّ اهتمامها ، وكأنها تحمل وزر القضية ! وبكثير من التأثر تعكس المظاهر المختلفة لهذا الصراع واصفة إياه بالعبودية "ولم تزل حواء / بأتون العبودية تتوقد " .
ثم تعلن توقها الى الحرية " وأنا في زنزانتي الأبدية / أنادي عبثا رفيقتي الحرية / أسامر القمر / ألعن الضجر " .
وفي خضم هذا الضيق ، وهذا المناخ غير القابل للتغيير ، كما فهمنا تلميحا ، تظل نافذة صغيرة يطل منها قبس ، وهي نافذة الكتابة ، تخفف بعض الهموم " تنفيس عن الذات " كما يشار اليها " أحمل قرطاسي وقلمي / أختلس من عصارة الفكر / بعضا من صور".
تبهرني في الشعر الكلمة الذكية مطرزة في خطها الصحيح ؛ لم تقل الشاعرة أستخلص ، قالت " أختلس " ، وهذه الكلمة لها دلالة وأهمية ، تختزل رزمة أوراق في ميدان الحديث عن مشكلة المرأة ، لا سيما المرأة الأديبة وما تتعرض له من إجحاف حيال طموحها أن تصبح مبدعة ومنتشرة ، تختلس الحرف اختلاسا ، ولا تمارسه حرّة مطمئنة !!
في مشهد المعاناة بالمجمل ، أعجبتُ بهذه المساحة المتنوعة الصور : الحقيقة والمتخيّل ، الألم والتحدي ، ثم المستقبل الغامض وما يخبئه من مفاجآت وتوقعات تستدعي التفكر واليقظة !
نقطة الحبر الأخيرة تشير أن في هذه القصائد بعض الملامح الضعيفة وكأنها تعاني سوء التغذية .. وأخرى لم ترق الى اللغة الأدبية الخالصة ، أي المتجاوزة الخطاب يحاول فرض نفسه كلغة شعرية . لكن إذا أردنا قياس هذا الديوان بالمنظور الأخلاقي ، نكتشف أن الشاعرة مهذبة وأمينة في رسالتها ، صادقة مع نفسها وقارئها ، وهذا يعزز حضورها في ساحة الشعر .