بقلم: نور عامر
لا يهمنا هنا ان كانت العبقرية وراثية كما ذهب أفلاطون والعالم البريطاني كالتون وغيرهما ، أو إن كانت حصيلة تجربة وخبرة مكتسبة كما زعم "وطسن" أحد علماء النفس المشهورين . إنما ينصب اهتمامي بداية في تلك الومضة العبقرية التي تتجلى في الشِعر الشِعر والتي تشكل المعادلة
المحورية بين لغة الإبداع وشغف المحاولة . ولعل هذه العبقرية في الفن هي التي قهرت الزمن فذهب وبقيت في بعض الشعر خالدة الى ما شاء الله.
بناء على بعض أضواء نقدية واخبارية لمستها كلاما حسنا في شعر آمال عواد – رضوان . شدني الفضول لأتعرف على هذه الموهبة الجديدة نسبيا ، ولم يخامرني شك بأن هناك لغة عبقرية ستفتح شهيتي . وفتحت ديوانها "سلامي لك مطرا" قصائد نثرية ، وكان من المفترض – نظرا لأن المبدع عادة يزج بأفضل ما عنده في الإستهلال – أن تظهر العبقرية في القصيدة الأولى "خرافة فرح "ولم أكن لأطمع من قاموس علماء التربية بأعلى درجة للعبقرية 300 درجة ، يكفيني درجة متوسطة 145 إلى 153 . لكنني انتهيت بخيبة لم توقفني عن المتابعة بل حفزتني إلى مقياس الذكاء ، درجة أقل من العبقرية ، فحظيت بذكاء في الفكرة والتعبير .
"براءة الفجر / تسدلها عيون الملائكة / من قبة العدل / على هديل يمام الروح / ظلالنا الهاربة / من تنور سكون الكتمان / بوداعة غيبوبة محمومة / تنفرط عناقيد لهيبها / جمرة اثر جهرة" .
من المسلمات أن الذكاء هو ضروري في الشِعر باعتباره احد الشحنات المغذية للمستوى ، لكن المشكلة التي فاتت ربما شاعرتنا أن الذكاء وحده ليس وسيلة لإبداع قصيدة . فأين الدهشة في هذا المقطع ؟ أين الخارج عن المألوف ؟ وأين اللحظة المشعة بمفهوم علم الجمال ؟ .هذه العناصر اللازمة في كيمياء الشعر تتفاعل مع بعضها فتحدث الصدمة التي هي في المحصلة النهائية تجعلنا نقر بثراء هذا الشعر او ذاك , بيد اننا قد نتخذ موقف اللامبالاة أو المجاملة في افضل الاحوال إذا أحسسنا بغياب هذه العناصر أو بعضها في المقطع التالي ايضا من قصيدة اخرى .
"أشواك رحيلكَ تخز أعصاب الزنابق / ستائر ماض تتمرغ لوعة / في جنبات الليل / تتذاءب عيون خيالي / موجة ماء تشعلها / موجة نار تطفئها / وفي خباء الأبجدية / تستأنس بحضن ضوئك".
ولعل الميزة الأكثر وضوحا في هذا الديوان هي الجمل الممكيجة وليس المؤثرة العميقة ، عملية تجميل متقنة على أية حال ، نورد القليل منها .
"تهزج زغاريد الأحلام . تختلس زيت قناديلي الناعسة . وشاح من زقزقة الأماني .تتبختر حورية الخيال في باحة الجمال . تقتات من ضرع النجوم . برقائق بسمتك الشقية" .
ربما كانت المكيجة هنا عوضا عند مدركات حسية او شعورية تخثرت لفظا ساعة المخاض ، باعتبار ان اللغة احيانا ليست هي الوسيلة للتعبير عن المشاعر والأحاسيس . وما دمنا في سيرة اللغة بدأنا نلمس في بعض الشعر الحديث تقليعة تفجير اللغة او الخروج عن القانون كقول آمال عواد "يا الغافي . أيتها الغابة ألتترعين . نوافذ هذياني ألتتراقص . لسان القلم أليصهل" بدل الذي يصهل . قد لا تروق هذه التقليعة لقراء العربية .. لكن اذا نظرنا إلى الدراسات السايكولوجية لعالم المبدعين والفنانين نجد ان الإشارات الحسية تتغلب لدى بعضهم فطريا على الإشارات اللغوية فيحدث عندهم انحرافات في اللغة . لذلك يستحسن من وجهة نظري ان يتسامح النقد الأدبي مع هذه الإشكالية في الشعر .
اعتقد ان الشاعرة استمرأت حشو قصائدها بالأرواح فطفقت تردد "يمام الروح . ثقوب الروح . الروح تتبعثر . الجسد والروح . خوابي الروح" وهلم جرا .. حتى تصوّرت نفسي في حضرة وسيطة مناجاة الأرواح "سبيرتيوالزم" . لا شك ان في قلب كل انسان بعض الميل السليقي الى ما يسمى "الما ورائي" وعلى اساس ديني او فلسفي ، فطري او عقائدي . وهذا الما ورائي عند شاعرتنا انحصر في الارواح الكثيرة . كنت سأتقبل هذه الجمهرة لو كانت مضفورة في النص او لازمة للسياق ، لكنها بدت مقحمة ومشاغبة ! أجل مشاغبة تعرقل احيانا حركة انسجام القارئ بل تزعجه بعض الشيئ . وبما ان الجسد مادي والروح شعشعاني فقد اختلط المادي بالشعشعاني بطريقة تراكمية وليس بطريقة الترابط والإلتحام .
اظن ان الشاعرة ومن خلال احتفالها بالارواح تعيش لا شعوريا حياة صالحة روحية اكثر منها مادية . اذا رجعنا الى آراء الباحثين في هذه الأمور مثل "خليل حنا تادرس" يتضح ان مثل هذه الحياة تحسن صفات الانسان وترقى بأفكاره . ولنا في ذلك مثال قصيدة "في ملاجئ البراءة" اختتمت بها ديوانها .
"نحن من تلاشيا / منذ ان هبطنا من جنتنا / اقدر ان نظل نتهاوى / إلى غابة ملوثة بالحرب والعصيان ؟ / أكأنما نحن لرحمة طردتنا / حين عصينا المعرفة ؟! / او كأنما ظلالنا بعد / ما تدربت على المشي حافية / على مساكب الاشواك ؟ / أما عرفت عثراتنا / كيف تنهل الألم من منابعه / أما استطاعت ان تلون المنافي / بالوجع .. بالأحزان ؟ / نمضي حزانى في عياء العزاء / حروف مجروحة تتشدق بعذب العذاب / والوقت يعدو الينا عدو عدو يرمح" .
هذا المقطع الراقي ذوقا وفكرا يجعلني اتوقع مستقبلا ادبيا جيدا لآمال عواد . لكن لا ضير من القول ان هذا المقطع يفتقر الى عنصر هام في الشعر وهو الابتكار او الخلق ، الميزة الأكثر استقطابا لجمهور الشعر المعاصر من الذواقين طبعا ، وليس الذين يحتفلون بكل شعر !