لماذا اختار لكتابه الأول " أرض الباسيفلورا الحزينة " فقد فسر ذلك تفسيرا مقبولا في البرنامج الإذاعي
" أوراق " . إنّما الجوهر يكمن في النص يجاري الحداثة فكرا هدفا ورسالة .
مرتان قرأتُ الديوان وبشغف ، وهذا يدل أن الشاعر المتميز مروان مخول استطاع ان يرتفع باللغة الى فضاء يتوق اليه متذوق الشعر ، وليس بالعه ! .
وكانت " صورة آل غزّة " قصيدته الأولى ، وغزّة المنكوبة أوْلى بالإهتمام ، يطارحها الشاعر ألمه رؤيته ومشاعره ، وكأنه عاش لب المأساة . هذه القصيدة وإن كانت مؤطرة ضمن مساحة جغرافية ، إلا أنها تنفع في كل زمان ومكان ، حيث كان ويكون ظلم الإنسان للإنسان .
" هذا الرّكام المرّ في غزّة / نبتت عليه ذراع / طفل ؛ لوحتْ لله من يومين / لكن السماء تحجبت / إذ أجرتْ للطائرات محلّها الرمزي ، كي / لا تُرى تلك اليد الحبلى بعنقاء / الرماد وما يسمّى بالأمل " .
صورة شعرية مكثفة تحمل ملامح العدوان ، الإستغاثة ، والصمود . " السماء تحجبت " مبتكرة . أسطورة الفينيق مجدولة في النص ، موظفة توظيفا فنيا .
وفي مقطع آخر من القصيدة " يا موت .. / لا تبحث عن الأطفال / إرحل / فقد ذهبوا الى البرّاد في المشفى بمفردهم / كل الأحبة يسهرون هناك / في الطابق العلوي " حَسنى " أمهم / ماتت على عجل / لكي تحمي مكانا في المقابر للصغار " .
اننا نلمس حدّة البناء التراجيدي ، تهزنا من الداخل ، نمخر اللحظة الأكثر إيلاما وواقعية ، نحس لبرهة بوطأة الزمن ؛ إنها " لعبة " الحقيقة الرابعة في حياة الإنسان ، لكنها موسومة هنا بالصدمة والدهشة ، ثم الغرابة "لكي تحمي مكانا في المقابر للصغار" ، وهذه العناصر من سمات الشعر الهارب من المألوف الى فجاج مشرعة .. لذلك يمكن اعتبار مروان مخول شاعرا متمردا بمفهوم الشخصية المبدعة ، وكيف تسعى لفتح ابواب مجهولة في الشعر المعاصر .
بيد ان ما يعيق قليلا نشاطه هذا ، إنشغاله بالحوم حول المتوارث . وبالرغم من لهجة الإحتجاج في موضوعه هذا عن غزة ، نستشف الجانب الخفي ينبئ ربّما أن الشاعر يعيش أحيانا " مونولوغا " متوترا ، بين تصديق حصول المعجزات ، أو الإتجاه الى منطق العلم " أين النّبيون القدامى / لا يُنَجّونَ البلايا من رصاص ساذج ؟ / لا بيت في البيت المجاور للنَّجاة .. " .
وإن نتابع القصيدة ، تواجهنا جرأة بالغة في الجدل وإبداء الرأي . " ما لي وذا الإنجيل لم يمسح دموع الجرح / يوم يبدّل الجلاّد جلدي ، كي أظل / على ألم ، وأعلى من سقوط الأحجية ؟ ! " .
قلّما نجد شاعرا استطاع التفلّت من تأثير البيئة ، وقد تكون هذه القضية ايضا من أسباب عدم إندياح معظم شعرنا الى تخوم بعيدة . فالجليل كمثال ، بسحره وسطوة مناخه ملهم للشعراء ، مسحوه مسحا ، فلم يعد فيه من جديد سوى مقياس الألفاظ ، منها المبتذل المجتر ، ومنها المتضوع بالجمالية كهذه القطعة من قصيدة عروس الجليل لمروان مخول " عروس الجليل منطقُنا ؛ / " تل زعتر " يُذكرنا فنشكره / وميرمية ، نشربها لترتوي منّا / هي طير هاجر مع الأسراب / لا ليقتسم الفرارَ ، إنّما / ليدله السرب كيف الرجوع / الى الغصن الشريد " .
في حكاية " بّولا" يعيدنا مروان الى ما يطلق عليه " الشعر القصصي " الذي يعتمد في مادته على ذكر وقائع ، وتصوير حوادث في ثوب قصة ، كما في قصيدة عمر بن أبي ربيعة : ليت هندا أنجزتنا ما تعد .... ) أو في قصيدة ايليا أبو ماضي " التينة الحمقاء " .
المدخل لقصة مروان " لبنانية ، تزوجت صغيرة جدا ، أنجبت .. فترمّلت .. ثم ماتت بعد خمس سنوات " .
قد تكون هذه القصة واقعية أو متخيلة ، إنّما الثري فيها انها تتماوج بطريقة شائقة ومؤثرة ، وهي قصة عميقة ، لأنها تسيطر على عواطفنا ، والسيطرة على العواطف من النقاط الضرورية لتحقيق العمق في الأدب . نكتفي منها بهذه المساحة .
" كيف تُزفّينَ وتتركين كنزة الصّبا / تئن في خزانة الماضي حزينة ؟ / أليس الطقس بارد ؟ / ورحتِ تبحثين عن شقاوة جديدة / إذ تلعبين بالنضوج قبل أن يحين لكْ ؟ / أتذكرين الأمس من أسبوع عمرك الذي / اشترى جمالا من دكاكين الخيال ؟ / أتذكرين كيف صرت زوجة / وعمرك القصير لا يطال شبّاك البلوغ ؟ " .
في موضوع آخر عن القناعة ، كنت على يقين أن بعض الشعر من الأجدى لو حذف لأنه يخفف من وزن الكتاب . " الأبطال والنُسّاك جميعهم / يحبونك أيتها القناعة / انا كذلك .. أحبّهم ولكن / لا أحبك . "
كان بإمكان الشاعر التعبير عن طموحه بمستوى أكثر شاعرية .
قصيدة " على سيرة سلمى " استحوذت على إعجابي ، لا سيما الفكرة ؛ أذهبُ الى أرسطو ، فسّر الفكرة الجيدة بما معناه : من المفترض أن تثير الإنفعالات ، وأن تسلك الكلام الطبيعي والخالي من التكلف .
" يحكي صديقي عن فتاة / مثل من سرد الخفايا / من سكوت راح ما بعد البعيد ؛ / سلمى تلاقي نفسها / إن تاهت المرآة في أجزاء أنثى / زيّنتْ أنحاءها بالطهر " .
وماذا نقول بعد ، عن هذا الإنجاز الرائع ، المتنوع بمضامينه وإشراقاته ، سوى أنه من أجمل ما قرأتُ مؤخرا على الساحة المحلية . تحية الى مروان .