كثيرون من هؤلاء ظهروا فجأة على هامش الثورات الشعبية العربية، المتصاعدة قدما في رسم خريطة الحاضر والمستقبل الجديدين ، التي تخطها الشعوب الثائرة في مختلف الدول العربية ، كثيرون من متبرجي الأقلام ، كطواويس عرجاء عوراء، ظهروا فجأة يمشون الهوينا على هامش ذلك الخط البياني الواضح الناضح بالدم والدمع والشرف ، الذي تخطه الشعوب الشريفة بما لا يقاوَم ، وكأن حملة تلكم الأقلام ، أو الحواسيب النقالة ، باتوا كالمصورين الذين يرافقون المتسابقين على هامش المضمار في الملاعب الرياضية ، يلهثون إلى جانبهم وبالكاد يلتقطون صورهم من الجانب .. هكذا ظهر رهط من أرباب الصحف العربية الداخلية ، الذين هللوا لأمثال حافظ وبشار والعقيد ، في فترة ، ثم حزنوا عليهم في فترة لاحقة ، ثم شتموهم وشاركوا في طعنهم مع الشاتمين الطاعنين ، حين سقطوا كالثيران المذبوحة العجماء .. نعم لقد تجاوزت الشعوب العربية اولئك الكتاب النطاسيين ، وبعض المفكرين ، بكلمتهم ، وتخطت أصواتهم منابرهم ، وجعلتهم موضع سخرية ، وأظهرتهم كأولاد سذج مراهقين ذاهلين جامدين ، يفرض عليهم الواقع الجديد بشعاعه الحاد ، يقظة قاسية من حلم لذيذ ، أخذهم عن هذا الفجر ، ليال طوال من النوم والاسترخاء في أحضان "معلقة " تكاد لاتنتهي ، من المديح والهجاء .. أجل بانوا أمام الشعوب كالوعَّاظ الذين أخذهم العجب من فعل وعظهم في غيرهم ، حين وجدوا الناس فجأة في الجنة ،من تأثير هذا الوعظ ذاته ، وهم لا زالوا قانعين قابعين في صوامعهم وصالوناتهم وأبراجهم !.. ذلك ان حسابات الشعوب دقيقة واضحة لا لبس فيها ، ومطالبها واحدة ليس فيها اختلاف . الجميع يريد العدالة والمساواة في الحقوق والواجبات ، والجميع يطمح لحريته المشروعة ، وصون كرامته الشخصية . وواضح بالبداهة أن لا كرامة بدون حرية ، ولا حرية بدون تضحية ، ولا تثمر تضحية بدون وعي وفهم . وليست المفاجأة واليقظة القاسية التي يبكي بسببها الطواويس الصناعية ، سوى الدليل القاطع لتجاوز الشعوب أقلام وأبواق "الممانعة والمقاومة والعروبة " وسواها من مصطلحات عظميَّة أرخيلوجية وأنتروبيلوجية حفائرية . لأنها في الحقيقة – أي الشعوب العربية المقموعة المسحوقة ، بعمالها وفلاحيها وموظفيها الصغار وعاطليها عن العمل – وعت المغزى الحقيقي لتلك المصطلحات ، بينما أرباب صحافتنا الكبرى خصوصا ، وبعض من ساستنا الباذخين ، لم يفهموا ، ولم يقصدوا أصلا المغزى والمعنى من تلك المصطلحات التي يتبجحون بها – كحرية وتقدم وتطور وممانعة ومقاومة وقضية وإنسانية وما إلى ذلك من مفردات (سياسية وأدبية) . بل رأوا أشياء أخرى ، وقصدوا أشياء أخرى لا تمت لمطالب الشعوب في شيء .. ولذلك لم يتوقعوا أن يأتي وعظهم السياسي الروتيني المملول ، وصياحهم الفكري والأدبي العارض ، بثمار جوهرية ، كما قد يظن كل منهم في أحلام يقظته النرجسية .. في حين أنَّ ثوران الشعوب العربية جاء نتيجة عوامل اجتماعية ، وتخنلوجية من صنع ظروف واختراعات قصدت أشياء كثيرة أخرى هي أيضًا، لكنها لم تهدف إلى إذكاء ثورات شعبية عربية ضد رغبات وتوقعات (بلغيت) وأضرابه من أرباب الشركات الاتصاليَّة الإلكترونية ، التي من الأكيد انها كانت تحرص أكثر على "الاستقرار" الشرق أوسطي، بختم بسيخوسياسي غربي .. لكنها أقدار التطور ذاتها تعمل كسيف ذا حدين ، ما لم يرده ولم يرضه أقطاب هذا التطور الجهنمي في الأصل . لقد غدر شيطان التطور الغربي بصانعيه وبموجهيه، ليس فقط في تشرنفل وفوكوشيما النوويتين ، كما في حوادث كثيرة سواها على المستوى الكونفونسيونالي التقليدي .وإنما أيضا على الصعيد الاجتماعي والوجودي في العالم ،فيما يتمثل من بعض ذلك ، باستغلال التخلف المصلحي ومص دماء الشعوب بمساندة طغاتهم .. وتبلغ وقاحة الطاغية العربي ، وجلاصة أتباعه ، من وزراء موظفين وصحافيين ومنظرين ومصفقين ، حدودا تجاوزت في سوئها أقزام البلطجية والزعران والقبضايات والرعاع والهمل ، المقنَّعين من المرتزقة الأغراب . خصوصًا أولئك الذين يواجههم مذيع "الجزيرة" ممن يمثلون أنظمة طغاتهم ، بأسئلة واستيضاحات ، يردون عليها بكل ما كذبَّت الشمس وبكل ما أحبط ضمير السماء وشهدت سقوف السجون وأقبية التعذيب .. ولهم عذر في ذلك ، لأنهم نتيجة لأقدم وأعقد عملية كذب وتزوير في التاريخ ، حتى بات التمويه والتدجين والازدواج وفهم الأشياء بالمقلوب ، طبيعة لديهم دخلت في مكونات مفاهيمهم وتوجهاتهم الحياتية الأساسية ، كالهواء والماء والخبز . فالحرية والديمقراطية واحترام الفرد واعتبار رأيه وخياره حق بديهي ، وسوى ذلك من حقوق طبيعية مشروعة ، هي من الأمور التي يراها الطاغية وأتباعه ، سموم قاتلة لهوائهم وخبزهم ومائهم ، ولذلك يظهرون اليوم أمام شعوبهم الثائرة في أبشع كوميديا عصرية . فلم نسمع بزعيم يريد تغيير شعبه كالقذافي ، بقتلهم وبتدمير بيوتهم ومرافق حياتهم . أو نظام يفرض "السعادة" على المواطنين بالبارود والنار، كنظام البعث السوري . ومن هؤلاء الطغاة من اعتبر نفسه إله على الأرض ، وهو أقل شرف وذكاء من أية حشرة ،فأول عملية إصلاح يدّعيها أي منهم يجب أن تنم عن اعتذاره عن تاريخه في الحكم ، ثم عليه ان يستقيل ، يهرب ، أو ينتحر ، وهو الحد الأدنى لأية عملية إصلاح يبدأ بها فعلا .
كميل شحادة - الرامة