في الحفل التكريمي بمناسبة يوم المعلم في بلدتنا , الذي أقيم بعد جهد جهيد وأجتماعات عديده لمجلس أُمناء البلده , إنبثقت عنه لجنة تحضيريه ومن ثم لجنة توجيهيه وأخيرًا لجنة عملٍ أوصت إقامة هذا الحفل في ساحة البلده, آخذةً بعين الأعتبار شُح الميزانيه , ورغبة الجميع حضور الحفل , خاصة وأن قائمة الخطباء طويلة وتضم بالإضافة للمحتفى بهم والمنظمون ,كلماتٍ لممثلي العائلات وممثلي الطوائف وممثلي الأحزاب المحليه والخارجيه وأصحاب المهن الحره والتجّار وموظفي الدوله وغيرهم .
في واجهة الصف الأول جلس كعادته أَبو الكفاح , عارضاً شخصه الضخم , معنقراً شاربيه تحت أَنف عريض إعتلته نظّارة مذهبة واسعة من ماركة
" ري بان " , معتمراً قبعة " أوشنكا" الروسيه المصنوعة من الفرو الطبيعي , ويمسك بيده صولجاناً من خشب ثمين في رأسه كرة معدنيه بلون الذهب تيمناً بفراعنة مصر , أو على الأقل تشبهاً بالضّباط حُرّاس الملوك والمسؤولين الكبار . ظل أبو الكفاح يتلفت حوله يمنة ويسرى وإلى الخلف , لا ليبحث عن شيء , إنما ليلفت نظر الحضور الى تواجده وكأن لسان حاله يقول (أنا هنا ) , ضارباً عرض الحائط الأنضباط الصارم المُتوخى من روّاد الصّف الأول , غير آبه بما يحدث على المنصة, شاردا في خلوة فكريه يستعرض ماضيه البعيد .
قضى أبو الكفاح جُل حياته بعيدا عن البلده ,يبيع الكلام , ويوزع الحِكم والمعاني في منظور فني , قليله صحيح , وأكثره ملفق , فقد إمتهن في الظاهر مهنة الحداء يجول البلدان , يحيى الأفراح والأعراس, وفي الباطن كان كثير الفواحش يلتقط الأخبار التي يؤتمر بجمعها ويوصلها لأسياده من أقطاب جهاز الأمن العام !.
ولما باع كل ما في جعبته من كلام وكثر الخير عليه (كما يقول) عاد الى بلدتنا وجيوبه منتفخه بأوراق النقد الأخضر , وترك كاره , وبدّل ثيابه وانتحل مهنة القادة الأجتماعيين ونصًب نفسه عيناً من أعيان البلد ,وصار له ( في كل عرس كبه وقرص ) , وكثر كلامه ( شقع بلا وقع) يغالي بالفخر بأحسابه المزعومين ويطعن بأنساب غيره , وأجاد لعبة السياسه العصبيه القبليه , وزين ديوانه بغرسةٍ لشجرة العائله " جذورها أوائل الأجداد , فروعها القادة الرواد , وأغصانها الأبطال الشداد " (كما يصفها) . وصار يباهي بأمتلاك السطوه على تُجّار الكلام في أسواق الحداء , ويحدث عن عالم تمخض عنه تجواله ولا يصله إلا من هم على درجة عاليه من الشجاعة , مثله .
ثم انتقل بفكره الى مرحلة زواجه , وإنجاب ولديه " الكفاح والنصر" , وإصراره على إبقاء ال- التعريف في بداية أسمائهم دلالة على تميزهم , ودأبه على تربيتهم بما عاش عليه , الى أن فاقوه بكثير, وطوروا أعمالهم تمشيا مع الحضارة الأقتصاديه فانخرطوا في عالم الحداء , والغناء . وعاد به التفكير الى طفولته والى حالة الفقر التي كانت في بيتهم ,الى والده وعمله في رعاية عجّال البلده , فَلَعَن تلك الأيام التي لم يكن للأوادم فيها احترام (حسب قوله) لكن ابتسامة عريضه ارتسمت على وجهه حين تذكر أُسلوب والده في إبتزاز أجرته من أهل البلده عندما كانوا يأتونه بدابة ليضمها الى العجال , فكان يتظاهر بالتعب وكثرة العمل , ثم ينهر الدابة وهو يقول :
- حا.... حا ..والله ما أسوقها
الى أن يحصل على رغيف صاج بالزيت والزعتر , أو على حفنة من القطّين او الزّبيب , فتسير الأمور.
وفجأة تحولت تعابيرة , فكشر وامتعض وجهه , وشد قبضته على الصّولجان وضربه في الأرض وبان عليه الأنزعاج والعنف حين راح تفكيره لناحية تسميته , وردد في سرِّه:
- آه من والدي , وآه من جدي , لماذا كان اختيارهما لأسمائنا على النحو الذي عليه ؟ " مُضَر – طه - العكروش " . هل عزّت اللغة عليهم وضنّت بأسماء العَلَم حتى تكون هذه التركيبة المزعجه من نصيب إسمي !؟ . فالكبار والعقّال في البلده ينادوه مُضَر بن الحاج طه العكروش , لكن الأشقياء وبلعانتهم المعهوده يلقبونه " مَضْرطه العكروت" .
تنبه ابو الكفاح وأفاق من سهوته على صوت آيفونه المثبت على حزامه الجلدي العريض فوق خاصرته اليمنى , يتغنى بصوت أحد الزجالين معلناً وصول مكالمةٍ :
- "مسكين يَلي أفكارُه عقيمه
بين الناس بدوّر عَ قيمه
ابليس ما بقدر عَ قيمي
بقيمو لو كان تحت التراب ".
رفع أبو الكفاح آيفونه , ولمس شاشته ثم وضعه على أذنه , ورد بصوت عالٍ :
- نعم يابا يا الكفاح...
ثم استمع الى مكلمه وهو يهز رأسه مهنهناً, فخيم الصّمت على الحضور بين مذهول ومتفاجئ , ولم يقطع الصّمْت إلاصوت أبو الكفاح نفسه صارخاً ( من قحف رأسه) صرخة يكاد ينفتح لها قفل المثانة :
- قلتلك الف مره ..إحنا ما بِتْلايمنا المشاكل وطلوع الصوت في البلد
اللي بيتعرض طريقك طُخُّه وسلّم حالك للبوليس والباقي علينا.
ثم أقفل آيفونه بلمسة , وببرودة أعصاب أعاده الى حزامه , وتلفت حوله هذه المره ليتحقق أنه حظي بأنتباه الحضور , وتنحنح قائلا:
- مثلي بلاقيش ولحالى بقديش .
ولوح بيده اليسرى كأنه يقول ( استمروا) .
وتابع عريف الأحتفال تقديم الخطيب التالي ..........
سامي فرّاج
الرامه