هي " الشيزوفرينيا " في محيطنا نعيشها يوميا شئنا أم أبينا ! . جزءان للفرد الواحد ، وهذا غير مريح في مقياس المنطق . هذه المرّة تمرّد عليّ جزئي الآخر ، أخذ يعاندني ويخرج عن طوعي ، إتخذ موقفا من الشعر والشعراء ، إنه يريد شاعرا آخر ونمطا آخر ، لم يعد يهظم المألوف من الشعر ، المعروف قبل أن يقرأ ، يصوّر حدثا ، حلما ، أملا ، غزلا . يريد قصيدة تنقله من ملفات المدرك والملموس الى عالم تتزاحم في بوتقته المسائل والأحاسيس ، الحلول والأشياء ، تلتحم تنفصل تتفكك مرنة منقادة ، يفرطها متى شاء ، ويعيد تشكيلها بلذّة المنتصر ، وبفرح طفولي ، يطمح الى قصيدة تندف عطرا على شكل شماريخ زاهية بوقية كزنبقة الحقول ، يزعم بأنه لم يعد ينسجم مع نص يعتقل فكره لبضع دقائق ؛ يدخن سيجارة وينام ! . يريد قصيدة تحلق الى ما بعد بعد التخوم ، تنفع الآن وبعد الف عام ، لكل الألوان الناطقة ، والطبيعة المتحوّلة ، يريد قصيدة قيثارة وبخورا يموج ، تتموسق في نسغه ، تترغل في وجدانه ، تتأود برقا وندّا ، بين ملامح الثرى وخفقة الباز في الأثير .
حاولتُ كبح لسانه عن ثرثرة قد تؤخذ على محمل الجد ! . لكنه لم يعبأ وتابع : لا أهتم بتفاصيل القصيدة ، ألفاظها وحواشيها ، أفضل أن تكون كذلك الإحمرار الذي يسبق الشمس قبل طلوعها بقليل .. أبحثُ عن شاعر ينجز اختراعا ، يغيّر مناخا قاتما ، يصنع جزيرة لا تقوضها سمكة السندباد ..
صمت هنيهة واستطرد : لا اريد من الشعر ترياقا مخدرا ، أو موعظة تقلص غبطتي بما حباني الله من أجنحة تتكيّف والأجواء المبهجة ، لا أشتهي في الشعر امرأة نضت ثيابها كفاطمة امرئ القيس ، ولا اريدها اقحوانة نبتت على ضريح قديس ، كذلك امجّ ملامحها مستهلكة في الخدور ، مستباحة جسدا وروحا في جرار لها طعم النبيذ . مَن لي بشاعر يسْمو بامرأة عن قانون التملك الى أجواء لا حقب مقيدات فيها بأمراس كتان ، ولا دوري ذكي يحدد إقامتها . أفتش عن شاعر لا يقدم للناس سُبْحة وحكايا ، بل يطرح صيدا يعشقونه الى حد التجلي . لا اريد قصيدة تفرض عليّ فرضا ، بل أبحث عنها بأمل ولهفة ، كما يبحث الغواص عن لؤلؤة ، او الضمآن عن حفنة ماء .
ــ لعلك تطلب المستحيل ؟ ! . صراحة بدأت أتضايق من ألفاظك ! .
ــ كلمة أخيرة وأغرب عن وجهك : أطمح الى نمط قوامه الحكمة والتجربة ، يكون عونا ليّ في أموري المضطربة والمستقرة . حبّذا برائعة إن أقصيتها دنت ، وإن قربتها تفرهدت ونطقت . وتراني أحن الى قصيدة مخضبة بكل ألوان الطيف ، فلا أطلب الإستزادة ، ولا يخامرني شك في لون كان من اللائق أن يرتدي قناعا في هذا المقام .