" في الذكرى السنوية على وفاة الموسيقار محمد عبد الوهاب "
( اختلفت المشكلات والمهام التاريخيه بين عبده الحامولي (سي عبده ) ومحمد عبد الوهاب ، لكن الاساس الراسخ عندهما كان الحفاظ على الكيان العربي المستقل لهذا الفن )
ان شهر ايار –مايو- هو شهر الرحيل عن الدنيا لمطرب القرن العشرين محمد عبد الوهاب ، ومطرب القرن التاسع عشر عبده الحامولي المعروف ب( سي عبده ) ، وان باعدت بينهما تسعون سنة بالتمام . هذان العملاقان
ملاا الدنيا وشغلا الناس وتركا اعمق الاثار في الغناء العربي المتقن وبقيت
اصداء صوتهما لا تزاحمهما اصداء صوت اخر . فالكاتب العربي الكبير نجيب محفوظ كتب على لسان بطل ثلاثيته ا لروائية- (السيد احمد عبد الجواد) -قوله :" ان دولة الصوت قد انتهت بانتهاء سي عبده " . اما محمد عبد الوهاب فانهك حياته المديدة في تجديد الغناء العربي على مراحل متعاقبة توازي مراحله الصوتية فكان له في العشرينات تجديد، وفي الثلاثينيات تجديد اخر وفي كل عقد بين الاربعينبات والتسعينيات لون اخر متميز من التجديد . منذ فجر تاريخ الغناء العريي عبد الوهاب هو ا ول ملحن ومطرب عربي صدرت عنه في مصر لوحدها عشرة كتب قبل ان يمضي على رحيله عامان فقط . وشهر ايا ر– مايو - سنة 1901 وسنة 1991 يجمع بين عملين فنيين يبدوان مختلفين ، لكنهما في الحقيقة متفقان فعبده الحامولي في الادوار الغنائيه يختلف عما قدمه عبد الوهاب وابدعه في تجديداته التلحينية ولكن يجمع بينهما اخلاصهما والتزامها لاصول الغناء العربي المتقن والموسيقى الشرقية الكلاسيكية الراقية والعمل على توسيعها وتطويرها وحمايتها من الهدم والتخريب والضياع . فالغناء العربي المتقن يتسع لجميع المذاهب والمحاولات التجديدية ما دامت لا تستهدف الغاء هذه الاصول العربية واحلال الموسيقى الاوروبية بدلا منها .
تتضمن الموسيقى العربية في بعض من مقاماتها وايقاعاتها جميع ما تحتويه الموسيقى الاوروبية لان الموسيقى العربية بحر كبير لا نهاية له ، اما الموسيقى الاوروبية فهي المقامان الكبير والصغير ويقابلهما في الموسيقى الشرقية مقاما النهاوند والعجم ، وهما قطرة صغيرة من بحر الموسيقى العربية (هذه هي العلاقة والرابطة بين اصول الموسيقى العربية والشرقية ) .
ان جميع ما دخل على الموسيقى الاوروبيه من الاعمال التركيبية من هارموني وكونتروبوينت الخ ... فكله يدور في اطار المقامين الذين ذكرتهما وهما ( النهاوند والعجم او المينور وا لميجور ) ، بالرغم من اتساع هذين المقامين لا يستطيعان استيعاب الحشد الكبير الهائل من المقامات العربيه . ولهذا يعجزُ المستمع ُالاوروبي والامريكي عن تذوق الموسيقى العربية وفهم تركيبها الذي يتهادى ويتسامى امام عينيه واذنيه . ولهذاايضا يقول بعضهم : انه يُفتقُرُ الى النظر العلمي من تطويع الاغنيه العربية للعالمية ، ولكن هذا الرأي او هذه الدعوه العقيمة لم تنجح من حيث الاستغناء عن باقي المقامات العربية والاكتفاء بالمقامين الكبير والصغير من أجل تطويع الاغنية العربية للعالمية كما يزعم البعض . وقد برهنت على زيفها وعدم صحتها هذ الدعوة عندما اصطدمت في السنوات الاخيرة بالموجة الغنائية الهابطة فانهزمت تلك الدعوة المهجنة الرخيصة على الرغم تقدم الدعوة والموجة الهابطة قليلا
. وقد كان دعاةُ تغريبِ الغناء ِ العربي والموسيقى العربية ومحو اثارهما واحلال الموسيقى والغناء الاوروبي محلهما يعتقدون انهما على وشك النصر النهائي . ان الموجة َ الهابطة
( الاغاني المهجنة – فرانكو ارب ) حجبت حاليًّا الغناء العربي المتقن بعض الشيء ولم تقتصر على طردِ الموسيقى الاوروبية الرفيعة الراقية ، ولكن احتجابَ الغناء العربي الاصيل المتقن امر مؤقت وستنتهي قريبا تلك الموجة ُالهابطة الساقطة ويعود الغناءُ العربي الاصيل في مرحلته الجديدة
المقبلة اهم مما كان عليه سابقا وسيتخذ طريقا مستقلا رائدا في الحداثة والتطوير والابداع وسينتصر في نهاية المطاف على الفن الهابط الساقط وعلى محاولات التغريب التي ترفع شعارات ( الموسيقى الرفيعة ) واهدافها الحقيقية ازالة الموسيقى العربية من الوجود لانها متطورة اكثر وارقى واوسع واعذب واجمل ومتميزه عن الموسيقى الاجنبية اذ انها تخاطب الجانب الوجداني والروحاني في الانسان فتأسر لبَّهُ وتهذبُ احاسيسه وطباعه وتحدُو به الى عالم رومانسي حالم رائع . ان هذه القضايا التي نحن في صددها قد تصدى لها محمد عبد الوهاب ومعاصروه
،امثال : محمد القصبجي وزكريا احمد ورياض السنباطي ، وهم الرباعي الاعظم في التلحين . ثم تصدى لتلك الظاهرة التي ذكرتها الجيل الذي تتلمذ عليهم ، امثال : احمد صدقي ومحمود الشريف وعبد العظيم عبد الحق ... ثم الجيل الثالث : كمال الطويل ومحمد الموجي وبليغ حمدي ، وبعض المغنين الملحنين امثال فريد الاطرش ومحمد فوزي . وقد اختفى فجاة معظم هذ ا الرعيل الاخير بعد رحيل ِ الرعيل الاول من العمالقةِ وجهابذة الفن وغصَّت الساحة وامتلات بعشرات بل مئات الملحنين من جيل ( الدرابوكة) المصرية البلدية وايقاعات الديسكو والبوب والجاز والروك الخ... . هنالك بعض الموهوبين من الذين استسلموا للموجة الغنائيه الهابطة ولكن الاكثرية من غير الموهوبين وهم يعتبرون انتهازيين متسلقين دخلاء على التلحين والفن كاصحابهم المغنيين الجدد الدخلاء على الغناء .
ان تسعين عاما بين رحيل عبده الحامولي (سي عبده ) سنة 1901 ورحيل محمد عبد الوهاب سنة 1991 قد أعادت رسم مشكلات الغناء العربي بحيث كادت تصبح مقطوعة الصلة بمشكلاته في عهد عبد الحامولي وزميله محمد عثمان ومحمد المسلوب في اواخر القرن التاسع عشر فمهمة (سي عبده ) ومعاصريه .. أي رسالتهم الفنية كانت نفض وإزالة التراب عن المقامات العربية واحيائها من جديد ... هذه المقامات التي اخذت اسماء فارسية وتركية في عصور الانحطاط السياسي والاجتماعي للامة العربية بعد سقوط بغداد في قبضة هولاكو سنة 1258 م
. فمهمة هؤلاء الرواد الفنانين العمالقة هي انطاق هذه المقاملت العربية العائدة من غربتها الطويلة ، بلغة ولهجة جديدة في الغناء ، تختلف عن اللهجة ( العثمانية ) التي سادت اكثر من اربعمئة سنة على الاقطار العربية ... باختصار فالحامولي ومعاصروه من الفنانين عملوا على رد وارجاع فن الغناء في عصرهم الى تلك الاصول العربية الصحيحة ... وقد فعلوا كل هذا بدقة واخلاص . قبل مجيء عبده الحامولي لم يكن متداولا في مصر حينذاك سوى مقامات السيكاه والبيات والراست وشذرات من مقامات اخرى بلهجات بدائية . ويبدو هذا الامر واضحا في البحوث العلمية التي اجراها علماء الحملة الفرنسية الاستعمارية التي قادها نابليون على مصر عام 1798م . وهذه البحوث مدونة ولا خفاء بها . ان كتاب "سفينةالملك" للشيخ شهاب الدين هو الذي لفت الانظار ونبَّه َ الحامولي ومن سبقوه ومن عاصروه في القرن التاسع عشر الى ثراء المقامات العربية وكثرتها . وفي زيارة الحامولي لاسطانبول افتتحت له ابواب اخرى في التعرف الى مقامات عربية غير متداولة في مصر ومعروفة في اسطانبول ناطقة بلهجة غنائية عثمانية ، مثل مقام حجاز كار وأجناسه ، ومجموعة من المقامات التي تبدا بكلمة "شوق" مثل: ( شوق افزا و (شوق انكيز) و ( شوق طرب ) . وغيرها ... هذا فضلا عن الماهور والشاهيناز والستنيكار والدلنشين وراحة الارواح ، وغيرها من المقامات العربية التي اطلق عليه الاتراك والفرس اسماء تركية وفارسية بعد سقوط البلدان العربية في ايديهم.
ان مهمة (سي عبده ) كما ذكرت سابقا هي بعث واحياء واعادة الوجه العربي الى المقامات التي استعجمت ، فأدى ( سي عبده ) ومعاصروه هذه المهمة بنجاح كبير ، وتركوا للذين جاؤوا بعدهم تراثا رائعا من الموشحات والقصائد والادوار تجسدت وارتسمت فيه ملاح معركتهم العنيفة ضد عوامل الانقراض التي تجمعت وتامرت ضد الغناء العربي خلال تلك الحقبة التاريخية الطويلة المظلمة .
كان لعبده الحامولي (سي عبده ) صوت رائع عظيم وقال عنه معاصروه انه يحتوي على ثلاثة دواوين ، أي اربعة وعشرين مقاما . وهذه المساحة الواسعة لم تتح لصوت بعد صوت عبده الحامولي الى يومنا هذا .
فاقصى ما بلغته مساحة صوت محمد عبد الوهاب الذهبي في العشرينيات لم تزد على خمسة عشر مقاما ، واقصى ما بلغه صوت ام كلثوم خلال العشرينيات سبعة عشر او ثمانية عشرمقاما . لا يقاس الصوت بمساحته فقط بل بجماله ايضا ومقدرته وندرة معدنه وقد جمع الحامولي كما قال عنه النقاد الفنيون سعة المساحة الى جمالها ومقدرة الاداء ونفاسة المعدن . لقد سيطر عبده الحامولي على الساحة الفنية بمذهب الغنائي المتطور الذي انبعثت فيه مقامات الغناء العربي انبعاثا جديدا من خلال الحانه والحان معاصريه من عمالقة الفن مثل : محمد عثمان ومحمد المسلوب .
واخيرا: مهما اختلفت المشكلات والمهام التاريخية بين محمد عبد الوهاب وعبده الحامولي (سي عبده ) فان الاساس الراسخ المتين الذي بنى عليه كل منهما هو حل مشكلة الغناء في عصره والحفاظ على الكيان العربي المستقل.