عفيف ناجي مخول من قرية البقيعة الجليل ، قام بإصدار ديوانه " من حديقة الشعر العامي " ، تضمن مقدمة مطوّلة للدكتور بطرس دلة ، رفع فيها الشاعر الى السحاب ! .
عن فيثاغوروس : إفرح بمن يعيبك ، لا بمن يزهزهك ( أي بمن ينتقدك لا بمن يكيل لك الثناء ) .
وضعت نصب عينيّ أولا الناحية الأخلاقية في موقف مخول ، يرفض الظواهر السلبية ، ويتعرض الى قضايا عديدة سياسية واجتماعية . وهذا جيد في الإطار الإنساني .
لكن الغالب في " حديقته " أن معظم محتوياتها لا تبرح مساحة المدرك والملموس . علما أن الشعر هو : الفن الذي يرتفع بجزئيات حياتنا اليومية الى مستوى الرمز والتجريد . كما أفاد د. غالي شكري .
إن فاتحة الديوان ــ كل ديوان ــ من المفترض أن تكون ملفتة أو عميقة ، لأنها أول درجة في سلم الإنطباع .
لنرى قوله في مطلع قصيدته الأولى فاتحة الديوان " قول الحقيقة وتجنّب ملامة / كذب ومغشة صفات الحرامي "
من هنا يبدأ الخطأ وسوء التقدير ، إذ ليس شرطا إلصاق صفة اللص على الكاذب والغشاش ! ولماذا ينقط التاء المربوطة في هذا النموذج ؟ . في الشعر العامي تكتب الكلمة كما تلفظ .
وفي البيت الرابع من هذه القصيدة " تعلمت فهمت راقبت باهتمام / كوّنت فكرة وبنيت نظامي " .
هل تشمّون رائحة شعر ؟! .
انني استغرب من رجل جاوز الستين يحتفل بحزمة من الأبيات الساذجة كقوله " لولا المطر كل شي مات / والأرض ما مخلوق فيها " .
في قصيدة " صورتك حلّيها " يتحوّل الى مرشد وناصح " وحاول ما تعمل إساءات / صورتك في المجتمع
حليها " .
من أقوال هرمس : النُصح بين الملأ تقريع ) . ومع ذلك نشكر لمخول نصيحته .
من الأمور غير المريحة في الشعر أن يستعذب الشاعر الجلوس في ظل إبداع غيره . " إذا الشعب موحد بالقرار / تخطّى مصاعب ، أبعد الأخطار " .
واضح جدا حضور الشاعر التونسي : إذا الشعب يوما أراد الحياة ، الخ …
وفي قصيدة العلم سلاح " أعطوا المُعلم كامل الإكرام / علمْ الولد وطوّره وأهّلو " .
أين بيت مخول من بيت شوقي : قم للمعلم وفه التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا .
قصيدة " للجحيم إذهبي " ملخصها أن صبية زارته ، راغبة به ، فامتعض من ثيابها القصيرة ، وانتهت الزيارة بانتهاء القصيدة " وإحذري تطرقيلي بيوم باب / للجحيم اذهبي واحترقي بنارو " .
كان من اللائق أن يصرفها بكلمة لطيفة ناهية ، بدلا أن يستدعي عزرائيل ! . يريد إخبارنا بأنه مقاوم للإغراء .
انا أصدقه ، حتى وإن وصفها وصف المتأمل " جسم وطول وجمال جذاب " .
لننتقل الآن الى ما يسمّى " المربع الشعري " وهو الغالب في الديوان . يبدو لي أن الأستاذ عفيف لا يفقه من المربع سوى أنه أربعة أشطر يرتبها كيفما أتفق ! . لكن المربع هو فن يقوم على التجنيس الكامل في قوافيه ، ويفترض به أن يحدث المفارقة الصوتية / الدلالية ، وأن يكون مؤثرا وسلسا ، ويكاد يختزل قضية أو موقفا ، وهناك من وصفه بِ " القول القفل " . وأنا ارى فيه : القول الفصل . كما عند الشاعر المصري " ابن عروس " إلي يداديك دادي / وإجعل عيالك عبيده / وإلي يعاديك عادي / روحك مهياش بإيده .
في مربعات عفيف مخول لا أثر للفن ، لا تجد مربعا يعالج قضية من الداخل ، أو يطرقها بشكل يؤثر في النفس .
يقول عن حرب لبنان " كتيوشا هزّت لجبال / وجيوش بساحة قتال / وضحايا من كل الأجيال / وذخائر فجّروا بالأطنان " .
وكأنني أقرأ خبرا في جريدة ! . في الشعر العامي تحذف الألف من " فجروا " .
وفي مربع آخر يحتج على الإزعاج " بتفكر حالك بالمطار / " تركتورنات " مع صغار / " وإكزوستات " تعلي صوت / صوتها عالي يا ستّار " .
ما هذه " الدقرات " ، وما هذا الضجيج ؟! .لم يدخل لب المشكلة ، بل يلامسها ملامسة المتردد ، وكأنه يشك بقدرته إعطاء صورة ناجحة للموضوع .
بالرغم من الملاحظات التي سقناها ، لا يسعنا إلاّ أن ننظر الى السيد مخول باحترام ، مقدرين نواياه الحسنة ، ومحاولته تقويم الإعوجاج . أمّا عنوان المقال فهو من باب حث المؤلف أن يقدم لنا ما يستحق صفة الشعر ،
وأعتقد أن باستطاعته ذلك مستقبلا ، إذا التزم المثابرة والتصميم .