شيَّعت جماهير غفيرة من المغار وكافة القرى في الجليل والكرمل والجولان بعد ظهر اليوم جثمان المرحوم الشيخ التقي أبو نايف حسين أبو زيدان عن عمر ناهز السبعين عامًا قضاها في عمل الخير والبر والتقوى ، حيث كان مسؤولا عن الوقف في الخلوة الشرقيَّة في المغار وعرف عنه صدقه واخلاصه وإيمانه وأعماله الحسنة خدمة لأهل الدّين والمجتمع عامَّة . في رثاء الشّيخ حسين أسعد أبو زيدان، أبو نايف د. عصام عساقلة بسم اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ! لا حولَ ولا قوّةَ إلاّ باللهِ العليّ العظيم! أيّها المشايخُ الأفاضلُ، أيّها المشيّعون الكرام، قال الله تعالى في كتابه العزيز:" قلْ لن يصيبَنا إلاّ ما كتب الله لنا، هو مولانا، وعلى الله فليتوكّلِ المؤمنون ." والعبد المؤمن يقول: "عليّ بالصّبر، إنّ الله مَعَ الصّابرين." ليس من السّهل أن ترثي شخصًا كان له ذلك الأثرُ البالغُ عليكَ، وهذا الشّخص هو الشّيخ أبو نايف. لطالما رأى البعض أنّ الموتَ فعلُ خيانةٍ، أو غدرٌ، أو سَرقةٌ للحياة، ذلك لأنّه يدخل على غير انتظارٍ كي يقلبَ المصائرَ، ويقصفَ الأعمار في ريعانها، ويضعَ نقطة الختام لحملة الإنسان الّتي لم تكتمل بَعْدُ. وفي كلّ موتٍ يجيءُ قبل أوانه نوعٌ من الكمين المباغت أو الاغتيال الدّمويّ أو الطّعنة في الظّهر. إلاّ أنّ هذا التّوصيف لا ينطبق أبدًا على الشّيخ أبي نايف، لماذا؟ وهل لأنّ أبا نايف قد ودّعنا؟ كلاّ، فالنّاس كلّها تموت، إنّما الفرق الوحيد هو الطّريق والمنهج الّذي سلكه المرحوم قبل موته. أعِدُّ لأرثيكَ عشرين عامًا من المحبّة والاحترام. فَبِأيّة كلمات أُرثيك، وبأيّة عِباراتٍ أنعيك أيُّها الشّيخ الجليل! إنّ الكلمات تعجز عن وصفكَ، والعَبَرات حتمًا لن توفيكَ قدركَ وحقّكَ. عرفناك عبر سيل كلماتك العذب الّذي لا مكانَ له سوى القلب. كُلّما جلسنا أمامك كنت تأخذُنا لنُبحرَ معك في خفايا الحكايات القديمة والتّاريخ المجيد لجيلكَ. كنتَ دائمًا قريبًا علينا بملامحك، وقريبًا علينا بكلماتك الصّادقةِ وجوارحِكَ . تعبتَ وأطلقت لقلبكَ الفيّاض العِنانَ كي تشدّنا إلى العزّ والإباء، وإلى جوّ المحبّة والإخاء. معك عرفنا كيف تكون المحبّة في الإيمان بالله، وكيف نكون صادقين مخلصين أمام الله. كان أبو نايف حكايةَ جيلٍ تضمّ مئات الحكايات، حكايات الأرض، الزّراعة، الفِلاحة، الكَدُّ والتّعب، الأخلاق والمزايا النّبيلة، الجدّ والنّشاط، القيم والمبادئ، كلّ ذلك لتأمين لقمة العيش والحياة الكريمة. كان صاحبَ رؤيةٍ لخّصت رؤى زمنِهِ، وصاحبَ موقفٍ ملتزمٍ يتمثّل بالتّمسّك بأصول الدّين، صدق اللّسان، حفظ الإخوان، التّوحيد لمولانا في كلّ عصر وزمان، والرّضى بفعل مولانا كيفما كان. كانت حياتُهُ مجموعةَ حيواتٍ اتّسعت لتضمّ عدّة إنجازات، ومشاريع، كان من أبرزها تربيةُ وتوجيهُ الأبناء والأحفاد نحو الطّريق الصّحيح، وكان سرّ نجاح المرحوم هو الدّمج بين الإرادة والتّنظيم، بين الرّضى والتّسليم، بين الدّقّةِ والحساب، وبين الجرأة والمثابرة. قامةً عاليةً كان أبو نايف، وبعلوّها كانت فوق كلّ تصنيف، قامةً فارقتنا في زمن بلا إنجازات، وبلا تجلّيات، رحلَ في الزّمنِ الجحودِ، زمنِ تشوّش الانتماءات، زمن التّخبّطات والانفلات، وتراجعِ كلّ ما صنعه الآباء والأجداد من ريادات، وإبداع وأفكار كُبريات. واللهِ، إنَّ حاجتَنا كبيرةٌ لأمثالِ مَنْ هذا حالُه؛ لأنّه واضحُ الفِكْرِ، بيِّنُ التوجُّهِ، ثاقبُ البصيرةِ، مستشرفُ المستقبلِ. عندما أتاه المرض بقي كما كان مؤمنًا بربّه، صاحبَ دماثةٍ يغلّفها الفرحُ، وشهامة ممزوجة بعزّة النّفس، وظلال عينين تحمل مزيجًا من الإيمان والتّحدّي والإصرار. وعندما فارقنا أبو نايف منطفئًا بالمعاناة الّتي سبّبها له المرضُ الطّويلُ أحسسنا مِن حولنا بما يشبهُ الفراغ، كأنّ هذا الرّجل قد احتلّ مكانًا عميقًا في قلوبنا، وظلّ محاورًا لنا حتّى بعد رحيله. إنّه سحرُ الحياةِ وجمالُها حتّى في لحظة الفراق، فأبو نايف لم يفارقنا إلاّ مجازيًّا. برحيل أبي نايف نفقد شيخًا جليلاً، مؤسّسًا صلبًا، ورائدًا من روّاد عصرنا، برحيله فقد المجتمع منارةً شامخةً. ليس لنا مِن سلوى نُسلّي بها نفوسَنا، ونخفّف من حدّة ألمنا سوى وجود أبناء أبي نايف، أن يسيروا على درب ونهج والدهم في الاستقامة، والأمانة، والكرم، والتّربية، وخدمة بلدهم ومجتمعهم. رحم الله الفقيدَ وتغمّده برحمته، وأدخله فسيحَ جنّاتهِ، وصبّر أهلَه وذويه، وإخوانَه ومُحبّيه على مرارةِ فقدهِ، وصعوبةِ رحيله. إنّ كلماتِه ونصائحَهُ هي الّتي تُصان وتُردَّد وتُطبّق بعد العودة من جنازة صاحبها. ونختتم رثاءنا بقوله تعالى: "يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، اِرْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيّةً، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي، وَادْخُلِي جَنَّتِي. صدق الله العظيم." رحمه الله!
موفع سبيل يتقدَّم لآل الفقيد ولأهل المغار عامَّة بأحر التعازي راجيًا من الباري عز وجل أن يتغمَّد الفقيد بواسع رحمته ورضوانه . وإنا لله وإنا إليه راجعون .
ننشر هُنا كلمة الرِّثاء التي ألقاها في مراسم التأبين الدكتور عصام عساقلة مُؤبِّنـًا الفقيد الرّاحل :