الحياة بدون موسيقى وغناء صحراء خاوية
مَن قال بأنّ أعيادنا مقتصرة على عيد الفصح وعيد الفطر وعيد الميلاد وعيد الأضحى؟ صحيح انها أعياد دينية، ولكن هذه المرة كان العيد فريدا من نوعه، لأنه عيد لكل الشعب بكل فئاته ودياناته وطبقاته. إنه عيد أممي بكل معنى الكلمة، ونستطيع ان نقترحه عيدا يجمع كل البشر. إنه عيد الموسيقى والغِناء في بيت الموسيقى الشفاعمري.
كانت المناسبة، كما في كل عام، ومنذ أكثر من عشرة أعوام، ومع كل نهاية عام دراسي موسيقي وغنائي في بيت الموسيقى في شفاعمر، يحتفل هذا البيت الموسيقي المبارك باحتفاليته بإنجاز جديد لطلابه، والذين يصل عدد الحاضرين منهم اسبوعبا للدراسة الى أكثر من 350 طالبا من سن ثلاث سنوات حتى 18 سنة..
هذا الصرح الحضاري يخرّج أفواجا من الفنانين العازفين والمغنّين، فيزيدوننا ثقة بأن شعبنا حضاري ولا زال بألف خير.
يشارك في إدارة هذا العيد السعيد أساتذة مَهَرة في كل أنواع التخصصات الموسيقية والغنائية نظرياً وعملياً، وفي الموسيقى الشرقية والغربية، فيقدّمون لتلاميذهم جُلّ خبراتهم كي يوصلوهم الى درجة الاحتراف والتحضّر للقفز الى مرحلة التعليم الأكاديمي.
فوج هذا العام كان فريدا من نوعه، لأنّ التلاميذ أظهروا قفزة متميّزة في أدائهم خلال الحفل، ولا أبالغ إذا قلت بأنّ قسماً منهم وصل الى مرحلة الاحتراف مبكّرا. إنّ تمكّن طلاّب مثل "طوني برهوم" من شفاعمرو و"تريزيا فرّاج" من الرّينة و"تومي حسّون" من دالية الكرمل من التقدّم لامتحانات البجروت في الموسيقى، هو مؤشّر على قدراتهم على استيعاب الموسيقى النظرية والعملية. إنّ اجتياز الصف الثاني عشر في مجال الموسيقى ليس بالأمر السّهل، وهذا دليل بأنّ هؤلاء الثلاثة أصبحوا قريبين من مرحلة الاحتراف، وأنهم اصبحوا جاهزين للانطلاق الى مرحلة الدراسة الأكاديمية.
كان الحصاد مُغِلاً بوفرة هذه المرّة، بحيث تمتّعنا بكل ما يمكن ان يجنيه الانسان من سعادة ومتعة حقيقية، حيث لم يبخل علينا تلاميذ بيت الموسيقى بمعزوفات على البيانو والتشيلو والكمان والفيولا والايقاعات المختلفة والغناء الجماعي والقانون والغيتارة وآلات النفخ المختلفة من ساكسوفون وكلارينيت وفلوت، ومقطوعات عالمية تمتد من عصر الباروك من أيام باخ وفيفالدي، فَشَرقاً الى رياض السنباطي وفيليمون وهبي والأخوين رحباني ومنير بشير ومسعود جميل بيك الطنبوري، وجنوبا الى جنوب افريقيا مع غناء جوقويّ لأغنية "سياهمبا" التي تعني "الذهاب الى روح الله"، اي التحليق في الأعالي، التي أدّتها بشكل رائع جوقة البراعم التي تضم أطفالا من جيل ثماني سنوات حتى احد عشر سنة.
باختصار، انه عيد "الأدالوز"، وهي كلمة ارجنتينية أُخبرتُ لاحقا بأنّها تعني "النور الكبير"، اي "عيد النور الكبير"، ونبّهني أحدهم بأنّ إحدى الطالبات المشاركات في جوقة بيت الموسيقى في هذا العيد اسمها "أدالوز"، فزاد العيد عيدا عندما علمت بأنّ والديها من مشاركي "مسرحية هيصة" لجوقة البعث، فجاءت "أدالوز" بعد الهيصة، فأعطياها كل ما تحتاج من دعم كي يزداد النور إشعاعا وموسيقى وغناء.
انّه فرح الولادات الجديدة والقفز درجات نحو الأعلى، كما كان الحال مع عيد ديونيسوس اليوناني، عيد الخصب والحب. هذه السنة شهدنا ولادة فرقة "رباعي الجليل" للإخوة سعد من المغار، وهي فرقة تابعة لبيت الموسيقى، وتحت إشراف المدرّب المحترف "ليونيد كوبرمان"، وقفزة نوعيّة لجوقة بيت الموسيقى بقيادة الفنان "علاء عزّام"، وتطوّر رائع لجوقة براعم بيت الموسيقى بإشراف المعلمة "الكسندرا كيم"، وتطوّر لافت للانتباه لفرقة التخت الشرقي بقيادة الفنانين "سمير مخّول" و"رمسيس قسّيس"، وعزف يشبه الاحتراف لفرقة الأوركسترا الشابة تحت اشراف "ليونيد كوبرمان"، وجمال في أداء فرقة آلات النفخ مع الاستاذ "رافي توبتونوف"، وولادة جديدة منذ شهر لفرقة الغيتارات التي يشرف عليها المعلمان "عوديد شوف" و"شلومو عوز"، والتي كانت قد ولدت مع معلمين سابقين سنة 2009.
نستطيع ان نقول بأننا أمام عيد أُمَميّ بكل معنى الكلمة، وهذه المدرسة هي نموذجية لما تحمله من مغزى، بحيث يتعلّم الطلاب لغة عالمية يفهمها كل البشر وهي لغة الموسيقى. انه احتفال للصغار وللكبار، انه فرح العائلة والأصدقاء، إنه عيد يجتمع فيه كل الناس بدون تفرقة فيما بينهم في اللون والدين والعرق والقومية، وفيه كل الأدوات التي توصل الموسيقى والغناء العالمي ومن كل الأزمنة، الى قلوبنا وقلوب أبنائنا، ونستطيع ان نقول بفخر: ليت طائفيتنا وقوميتنا وعائليتنا وقبليتنا تتمثل في الموسيقى والغناء، لأنه، ربما، تصبح الموسيقى والغناء أقوى طريقة لتغيير العالم نحو الأفضل.
ها هم الفنانون الكبار والمعلمون المحترمون والأهالي الواعون يمسكون بأيدي أبنائهم الصغار ويمهّدون لهم الطريق ويعطونهم كل ما ملكت أياديهم من عطاء وخبرة لكي يوصلوهم الى برّ أمان الموسيقى والغناء الراقيين، حيث سنشاهد، وقد شاهدنا، جيلا واعياً يفهم لغة الغرب بموسيقاه ويفهم لغة أمّه الأصلية بموسيقاها وغنائها الشرقيين الأصيلين، فيتميّزون عن غيرهم بأنهم يتقنون ويعزفون كل لغات العالم.
مبروك عيدنا الجديد وكل عام وانتم مع ألف معزوفة وعازف، وألف أغنية ومُغنٍّ..
وكل أدالوز وأنتم بخير.