تقيّض لي أن أشارك في السنة الأخيرة في عدة لقاءات أدبيّة اختلفت مناسباتها بين إحياء ذكرى أو تكريم أو قراءات لشاعر أو كاتب أو ندوة لسبر غور موضوع أدبيّ أو استحضاره، بادرت إليها جمعيّات أهليّة ك"ميس للثقافة العقلانيّة" و"مساواة" و"الجذور" وغيرها، وتابعت أخبار بعض ممّا لم أشارك فيها.
الحقّ أقول لقد استمتعت بها وبأخبارها أكثر من اللقاءات السياسيّة غير المحصيّة التي أشارك فيها بحكم موقعي. وقد أحسست أن همّ العمل السياسيّ "المُنكر الجميل" خسّرني متعة مثل هذه اللقاءات سنين طوال، وأنا القابض في معتقلي عشرات الأسرى من بنات الأدب تحتاج إلى ميدان تحرير للتخلّص من قضبان سجني، ورغم أن الكثيرات منها قد فكت إسارها بشقّ النفس عبر خنادق حفرتها تحت أسوار أسرها، إلا أن الباقيات ما زلن يصارعن.
في الأروقة وفي الجلسات التي سبقت والتي أعقبت هذه اللقاءات، دار جلّ الحديث حول القلّة القليلة بين الحضور من الناس العاديين واقتصاره حتى على البعض من حملة القلم نثرا وشعرا، وغياب بارز لزملاء وخصوصا من الرعيل الأول. وتطوّر الحديث ليشمل مشكلة الرعاية نشرا وانتشارا و"تنشيرا". والتحزّب. و"اللقاط لا يطيق لقّاط". والاتحادات والروابط. والعتق والحداثة. وجائزة وزارة العلوم للتفرّغ. ووو... .
كانت الشكوى سيّدة الموقف في كل هذا، والملامة طالت كل ذي علاقة، وقليل فتّش عن العكر في زيته ربّما تيمّنا بالمثل: "لا أحد يحط العكر في زيته"، وابتلّت العيون بدموع على أطلال دارسة عكّرت صفو اجتهاد الأذهان في رفع الأركان. لا أنوي الخوض طبعا في كل هذه الشكاوى فهي أكثر بكثير وأكبر بكثير من أن تحتويها مقالة، ولكني أحسّ بالحاجة لطرح شظايا أفكار حولها ومن تلك التي أراها في ومن باب "وضع الحدّ في المارس" تاركا إياها يتيمة لعلها تجد متبنيّا يكفيها حاجة اليتم!
ليست لديّ إحصاءات ولكن نظرة خارجيّة توصلك إلى إمكانيّة أن يكون حملة الأقلام من شعبنا الفلسطيني وجزئه الباقي هي الأعلى بين الشعوب العربيّة لا بل العالميّة، وهذا معقول ففي الغالب من الأحيان تصير الكلمة بكل أشكالها سلاح المقهور ولكن المعضلة أن نسبة القراء منّا لا تتلاءم وقد تنازلت عن هذا السلاح بمحض الإرادة. على كلّ هنالك من يدّعي أن بين ظهرانينا هنا في الداخل ما لا يقل عن مئات كثيرة أو أكثر من حملة القلم قصة وقصيدة ومقالة.
فكيف يصير أن لا يجرأ حامل قلم عن "رمي" أكثر من بضع مئات من نسخ مؤلفه في المكتبات في أحسن الأحوال بعد أن يُهدي سوادها الأعظم، مثلما يعترف في الأروقة؟! إلا إذا قلنا أنه حتّى هؤلاء الحَمَلة لا يقرأون لبعضهم فكم بالحري أن يوصل بعضهم بعضا للناس!
لو أن كل كاتب أو شاعر تكفّل بشراء نسخة من نتاج زميله وبيع نسختين ليس إلا، فنحن نتحدّث عن آلاف النسخ ولا حاجة حينها عندنا أن نلوم دور النشر مرّة والقراء أخرى، فنريح ونرتاح ونضمن النشر والانتشار دون الحاجة في "التنشير-التسويق" على طريقة "حك لي حتّى أحك لك" في مقال أو دراسة أو... . أمّا المحور فربّما يكون اتحادا أو رابطة تشارك فيها الغالبيّة إن لم يكن الكل شرط أن لا يتم تشكيلها من أجل أن تجد منبرا لأحد أو لآحاد وإنما من أجل مثل هذا على الأقل. فهل تبقى، مرة أخرى على الأقل، حينها حاجة لجوائز تفرّغ من وزارة العلوم ل"تجيز" أقلامنا التي عاشت أحد من السيوف اليمانيّة عليها وعلى أمّها وأخواتها ؟!
في المناسبات التي ذكرت لوحظ غياب الرعيل الأول والقيادات السياسيّة، ولنترك القيادات السياسيّة، أفلا يستحق تكريم كاتب أو شاعر أو احتفاء به، حضورُ كل زملائه أو على الأقل معظمُهم؟! فلماذا لا يحضرون؟! فإذا لم يكرم ولم يحتف الكتّاب والشعراء بعضهم وببعضهم فلماذا نضع اللوم على الناس ونتهمهم بقلّة الاهتمام بالأدب؟! فهل التحزّب مثلا هو المانع؟! وهل هذا عند البعض من باب "لقّاط لا يحبّ لقّاط"؟!
قليلة هي الصحافة التي تفرد صفحات منها للزوايا الأدبيّة وإن أفردت فعدا عن قلّتها وحشوها في الصفحات الداخليّة، فلماذا أو هل تقتصر في غالبيتها على أسماء أصدقاء المحرر أو "محازبيه"؟! أمّا المواقع الالكترونيّة ورغم إمكانياتها الفنيّة غير المتوفرة في الصحف، فلماذا أنت بحاجة إلى مجهر من الوزن الثقيل لتجد فيها زاوية "الأدب"؟! فهل هذه المكانة التي يستأهلها وبعيدا تحت زاوية الأبراج وملكة تجارة المرأة هذا إذا وجدت أصلا؟!
والشظيّة الأخيرة: هل كلّ ذلك نابع فعلا من أسباب موضوعيّة تتعلق بالسواد الأعظم من الناس وشكل تصرفهم وسلّم اهتمامهم؟! أم من قصور عند أصحاب الأقلام في إيصال كلمتهم وليس فقط لأسباب فنيّة ذُكرت، وإنما بسبب أن الكثيرين يكتبون ما هو عصيّ على عقول الناس تحت شعارات الحداثة، وإن ساءلته يجيبك كارها كما أبو تمّام على ما أعتقد "لماذا لا تفهم ما يكتب" مطلّقا القول الصيني "من يفكّر بوضوح يعرض بوضوح"؟!
اعتقادي أن الغربة التي يعيشها الأدباء وبالذات من أولئك الذين لا يحسبون أن أمجادهم وراءهم (!)هي خليط من كلّ هذا، ولكن الرأي السائد بينهم وكأن "التوك" في الناس هو من باب وضع الحد في مارس الآخرين وبعيدا عن موارسنا والتي هي أشدّ حاجة للتحديد بدء بالكلمة الواضحة مرورا بالغَبْط لا الحسد وانتهاء بالثناء الممهور بالنقد فربّما بهذا نرفع أركان أطلال، ولنترك للأيام وأهلها يخلّدون من يشاءون ويمحون من يشاءون.