لا أكتب قصة هنا ، ولا أسجل ذكريات ، ولا أقدم سيرة ، رغم دخول بعض ذلك في طوايا التعبير . وإنما أحاول الاستمرار في بث إشارات ، كنت بدأتها للكشف عن الحقيقة الحياتية والوجودية من جوانب مختلفة . هذه الإشارات المركبة من إيحاءات وتعابير كتابية مختلفة ، هي اللغة الوحيدة التي يمكن توصيلها عن بُعد لمن يقرأ ، وهي لغة قاصرة إزاء ما نريد قوله والإفصاح عنه ، حينما نريد إظهار الخفي فينا من روح ونفس وعقل . فهي لغة الصم والبكم مهما كانت فصيحة بليغة .. ومن ذلك ان نسبية التعبير وعلى قدر ما نبغي منها الإفصاح ، تشكل أقنعة وحجب وقيود تزيد في عزلتنا أكثر مما تساهم في إطلاقنا وتحريرنا وتوصيلنا .. لأننا عادة نحن تركيبيين بنائيين تراكميين تكاثريين، ومادتنا في ذلك كله ، أغراض العالم – الحسي والفكري – على السواء . ولذلك ترى كل منا يتزيد دائما وبأقصى ما يملك من مال وذكاء ونفوذ وحيلة لتضخيم وتفخيم وتوسيع وإعلاء مسكنه ،حديقته ،وظيفته ، سيارته ، قصيدته ، كتابه ، ساحته ، سياحته ، مائدته ، ضريحه ..إلخ هذه الحركة المنطلقة من الداخل المجرد إلى الخارج المركب وبالعكس ،لا تسمح للمرء كي يتأمل هذه الحركة نفسها من موقع ثابت في خلفية مختلفة منها جميعًا . فما نملك من حقيقة جوهرية لا يمكن أن تدرك بلغة المد والجزر تلك ، ولذلك أعمل حارسًا ، حتى أتمكن في فراغي النسبي من النظر والمراقبة والتأمل والكشف والتحرر، من هذا المد والجزر النفسي الحسي ، ومن ثم التحقق بالحقيقة الوجودية الأعمق . وها أنذا تخطفني هذه الحركة أحيانا كثيرة وراء جمال حسي ما ، إمرأة عادة .. أو أي مظهر آخر لأنتزع نفسي مجددا لموقع التأمل الهاديء كي أتابع إيقاظ الوعي بحقائق الأشياء ، رفيعها وخسيسها وما ورائها من مطلق . ولا بد هنا من ان تتحطم أنانيتي الظاهرة إلى شظايا وهم يتكشف عن حقيقة أمام دفق المستهلِكين .. إذن الحارس فيّ ليس مجرد كلب ينبح بلغة تقليدية على القطعان الهائمة على وجوهها في سوق دهان ،حفاظا على قانون الأمانات . وإنما كلب مخلص لأمثال السيد المسيح وبوذا وسقراط ورابعة العدوية وكمال جنبلاط .. وسواهم . وفي تلك القطعان تجد المتبدل المتبذل ، وتجد صاحب المركز العالي،تجد الطبيب والمهندس والمحامي والشرطي والشاعر، قد نسي كل نفسه ودخل نيرفانا الغرائز مع سائر الخلق . ترى الشيخ والكاهن والراف يصارعون اللحظات ،يعتصرون العمر فوق سَلطة الأشياء والأغراض والمقدسات والمظاهر الأرضية .. أجل غريب أن تأخذنا أشياء هذا العالم عن أروع وأعمق واقدس وأشرف وأجمل وأصفى وأبقى ما فينا ، إلى هذا الحد ، ونحن على دين المُخيخ الزمني منذ أكثر من مليون عام ، هذا المخيخ المبني سيكلوجيا وعصبيا وكيماويا وكهربيا من ردود أفعال بهيمية .. حاول هنري برغسون بقياس علمي ونظر حدسي إثبات ان المخ يمكن (خلعه) والاستغناء عنه والاستمرار من دونه في وعي رفيع ، خلال لحظات عميقة ،كي نؤكد وجودا تجاوزيًا خالدا فينا . فالأميبيا – كما قال - كائن حي من "خلية واحدة ، هي المخ والأعصاب والفم والمعدة إلخ في آن ، فليس المخ أكثر من آلة مادية . ولا يمكن ان يكون المخ وحده وراء إبداعات شكسبير وبتهوفن مثلا ً،وبالمرة وراء المشاعر والأفكار والرؤى ".. ولذلك فإن الخطوة اللازمة والضرورية لتطور الإنسان - وهو مراوح لأكثر من مليون عام في مكانه - يجب ان تحدث خارج قشرة الدماغ ، ولكن داخل الجلد ، لا في ما يتمثل من اختراع واصطناع خارجي ، لا يتعدى ان يكون امتدادا للمخالب والأنياب والأظافر .. غريب هذا اللهاث وراء المطلب السيكلوجي لتأمين شخصية وفيلا ومقتنيات وأشياء لا تحصى ، لتأمين مركز محترم وعائلة محترمه وشخصية محترمه وزفاف محترم وعيشة محترمة وجنازة محترمه .. أجل أليس من الغريب العجيب ان نهتم كل هذا الاهتمام في ان يكون لنا موت "محترم" وان نبذل ما نبذل من طاقة ونفس ومال في سائر خزعبلاتنا الاجتماعية .. لا أنا لست مجرد كلب حين أحاول الخروج على هذا الاتفاق الجمعي الشاذ ،عن الله وعن الطبيعة .