الشاعر سليمان مرقس ، كفر ياسيف ، في ديوانه الجديد " صرخات في وجه الزمن المعطوب "
حظي بمقدمتين دسمتين لشخصين محترمين ، مجاملة واحتفال من الطراز الأول . لو كنتُ مكانه لكتفيت بذلك ، لكنه طمع بالاستزادة تلميحا وليس تصريحا ؛ وهذا قلمي دائما على استعداد للمفاجآت ، أجس الصفحات الكثيرة المكتظة ، قصائد التفعيلة الواحدة ، والغالب عمودية ، بعضها يربو على الستين بيتا ، وهذه الإطالة يفرضها تعدد الأغراض في القصيدة الواحدة . لكن لولا سعي الشاعر الى التنميق وبعض أشكال البديع ، لأصاب القارئ الملل ، ليس بسبب الكم ، إنما لافتقار هذه القصائد الى الإبتكار الذي اعتبره روح الشعر . فما معنى أن لا ينحرف عما هو عام وشائع فيما وصلت اليه الأمة العربية من واقع صعب ، من منا لا يعي هذا الواقع .
" فالواقع المشؤم ليس مطمئنا / ما عاد يجدي العد والمعدود " .
ولم ينجز فتحا بقوله " الحسم بالسيف لا بالشعر والخطب " .
لقد حُسمتْ هذه القضية منذ إثني عشر قرنا . قال أبو تمام الطائي :
السيف أصدق أنباء من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب .
يتضح في هذه القصائد أن الشاعر وطني النزعة ، غيور على الأمة ، صادق في طرح موضوعاته السياسية والإجتماعية ، يحاول لفت الإنتباه الى انحدار القيم والأخلاق بغية إصلاح ما يمكن إصلاحه ، وهو في مساره الشعري يحث على السلوك النقي في الدين ، أما المزيفون فلهم معه حساب عسير ، حتى خلته وصيا حازما .
" والدين ان كان التدين خالصا / لا يعتريه تمايع وتضبّع / وجهان يبدو فيهما متواطئ / مهما تمكيج وابتدا يتصنع " .
وللشاعر رأي في الغدر وقبحه ، عبر قصيدة محورها هذا البيت " ولكم يكون الغدر أفدح قسوة / إن جاء من خل لنا وقريب " .
في هذا المعنى بيت مشهور لطرفة بن العبد : وظلم ذوي القربى أشد مضاضة / على المرء من وقع الحسام المهند .
لو كان " مرقس " في زمن النقد القديم لاتهم بالأخذ عن طرفة ! ، ولن يشفع له قول المتنبي : ربما وقع الحافر على موضع الحافر .
أما أنا فأحكم أنه الإحتذاء بنية الكلام فقط .
في قصيدة " جراحات القلب " ينظر الشاعر الى الدنيا نظرة المتأمل الخبير . استوقفني البيت التالي " تراءت لي الدنيا كئيب مسارها / شحوب كلون الضارعين الخواشع " .
قال أبو نواس في هذا الصدد : اذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت / له عن عدو في ثياب صديق .
لا اظن ان سليمان مرقس مال على الشاعر العباسي ، فقد تكون المسألة مجرد صدفة ، أو ما يسمّى " توارد خواطر " .
ولمرقس مع الطبيعة مناخ مركزه الربيع بسحره وجماله ، وصفا حسنا " حل الربيع فأين الكأس والوتر / أين الأحبة أين الخمر والسّهر / صار الوجود جميلا في تمازجه / لا تلحظ الحسن إلا من بها بصر " .
حقا أعجبتُ بهذه القصيدة ، لكنني في وصف الربيع لم أجد أكثر روعة من وصف البحتري ، حتى ليكاد الجماد ينطق : أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا / من الحسن حتى كاد أن يتكلما .
وفي ميدان الحب والغزل للشاعر مرقس صولات وجولات ، لكن " المشكلة " انه لم يقدم مغايرا أو أكثر ثراء مما قيل في هذا الباب قديما وحديثا . لذلك لم أحفل ، بيد أن المنطق يقتضي أن نسوق شيئا من غزله لأثبت صحة رأيي .
" ثغر تمنى التّرجسيّ رضابه / الشهد بل ( الشفتين ) وسالا / بدر ينام الليل عند حدوده / العين ترمي نيزكا ونبالا " .
بخصوص الرضاب السائل ، لعل الشاعر كان في عطش أكثر منه شوقا ! ، وتلك العين العجيبة ترمي نيزكا ، هل هي لأنثى من كرتنا ؟! .
ان الحديث عن هذا العمل يطول لغزارة موضوعاته وتنوعها ، لذلك رأيتُ أن أنهي المقال بالنظر الى الميزة الجليّة في الديوان ، وهي خلاصة حياة ، وقافلة آراء ، مواقف ونظرات تتشكل عبر ثقافة واسعة ، وبصورة لا تدع مجالا للشك أننا ازاء شاعر يعتبر من الشعراء الجيدين على ساحتنا المحلية .