"الحصيدة" و"الحليشة" من أصعب أيام الفلاح فالحرّ من جهة وكثرة "الدباديب" اللاسعة وألعنها العقارب من الأخرى وبُكرَة رحيل الشتاء من الثالثة كلها تجتمع على الفلاح وكأن "اللي فيهْ مِش مْكفّيه". والثالثة ومن المفارقات، يتمناها الفلاح للحصيدة إذ تصلَبُّ الأرض فيسهل حصاد سنابل القمح والشعير بقطعه قليلا من على وجه الأرض قدر قبضة كف اليد. يمقت بُكرة الرحيل للحليشة فتأخر الرحيل يبقي الأرض رطبة وهذه نعمة، إذ أن العدس والكرسنّة تُحلش حلشا أي بالقلع. رغم أنه لا على هذا ولا على ذاك "في اليد حيلة".
ما كانت تكاد تغلب خيوط الشمس الندى في معركتهما الصباحيّة شبه الدائمة في صيف بلادنا وهي الغالبة دائما وإن كان الندى من يزحف متقدّما أولا، حتى يكون راشد الفتى قد شقّ وسَطَ "مارس" القمح وقتلاه من السنابل "مْلقَّحة" وراءه أكواما أو "غِمارا" كما يسميها أهلنا "مستعيرينها" على ما يبدو من وصف الرجل المليء بالخير في لغتنا الجميلة ب"غَمْر الرداء".
والملفت كثيرا أنه وقبل أن تقرر اللجان الأولومبيّة تخصيص وسط البركة للسباح صاحب الحظ الأوفر بالفوز وإعطاء الأقل حظّا الأطراف، أعطى فلاحو قرانا الوسط للحصّاد الأقوى يشقّ العُباب لكي يجهد الباقون للحاق به.
كان موقع أبي راشد، معذورا، في طرف المارس يحصُد السنابل "على مهل" مسلّما قفاه للأرض وقد دبّت في رجليه الأيام فاعلة فعلها هاجرا القرفصة وهي الوضعيّة الأعنى للحصاد، متحمّلا الأشواك تارة والحجارة الحادة أخرى تفعل فعلها في أنحاء مؤخرته رادة أذى ثقله احتجاجا، ومجازفا "مكره أخاك لا بطل" بلسعة دابّة من العقارب أو العناكب.
كانت أم راشد بجانبه تضامنا فما زالت أقوى منه، غاضّة الطرف لئلا تملأ نظرها من راشد ولا يلوي لها لسان عن: "الله يبعد العين عنّك" ويبدو أن "أبو راشد" الضائق ذرعا أصلا من رجليه والأشواك التي تلتهم جناب قفاه لم يعد يحتمل هذه "الله يبعد العين عنك" وعمره لم "تركب هذه العين على رأسه" ففتش له عن "فشِّ غلّ" يلهيه فينسى معه ربّما آلام رجليه المتأصلة والآلام الوافدة من مؤخرته، فسألها:
- يبعد عنه عين من؟
- الخوف من عين اللي على ال"جحشة" !
طبعا لم يخطر على بالها ولا قصدت أبا راشد ولا الوقت وقت مزاح إلا أنه ردّ:
- أهلك على ال"جحشة"... وما مَعَنا عين زرقاء ولا سن فرقاء غيرك!
و"على الجحشة" التي هي عند أهلنا تكنية للموقع المتأخر في كل شيء ل"الدبّيكة" ول"السحّيجة" الذين يتذيلون صف "الدبكة" أو "السحجة" ويكونون عادة من "وطيّة" القوم أو صغارهم. يبدو أن أصل الاستعمال عندهم من شكل اصطفاف راكبي القوافل، فراكبو الأصائل من الدواب على رأس القوافل وهكذا حسب الترتيب، و"الجحشة" إن امتطيت أو لم تمتط لصغرها، هي في أسفل سلّم الدواب وبالتالي فمكانها المؤخرة من القافلة. لذلك فالقول لأحد أنه "على الجحشة" فيها إهانة، لكن أم راشد طبعا لم تقصد أبا راشد ولا كان أبو راشد من الذين يأخذون المعنى على حالهم وهم "أضرتهم" حسب رأي أبناء بلدنا.
لكن الكلام انتهى عند هذا الحد فأم راشد رفعت إلى الله طلبها ل"إبعاد العين" عن ابنها وهو حسبها ونعم الوكيل، و"مفاقعة" أبي راشد لا تُحمد عقباها، وبحكم التجربة تعرف أن كثر الكلام مع العمل وخصوصا إذا كان صعبا ك"الحصيدة" يزيد التعب، وهي وهو بحاجة لكل "نُتفَة" هِمّة وقبل أن تأخذ الشمس قبّة السماء... لكنه بادرها:
- هذا الولد إذا الله خلّاه سيوجع رأسنا فأخْذ "الشقّة" في سنّه مش قليل !
دارت الأيام وصادرت الحكومة الأرض بعد أن احتلتها ولا بقي فلاحة ولا حصيدة ولا حليشة ولا رجيدة ولا شقّة ولا جحشة وصار طعم القمح والعدس "غير شكل". رغم ذلك الله سترها مع "أبي راشد" فدبّر حاله وستر بيته وقضى سنيّه وأم راشد "كافي الناس خيره وشره"، وقضى أيامه حسب قاعدة "خاف الرّب الكبير وأكثر منه الرّب الصغير".
"الرّب الصغير" في نظر أبي راشد هو الدولة أو الحاكم والخوف منهما أكبر، لأن الكبارَ مكانةً ومكانا لا يظلِمون وقلبهم كبير وإن توكّل المرء عليهم أو اتّكل لا يخذلوه، وأمّا الصغار وإن كانوا دولا أو حكاما لا يعرفون الرحمة ولا يُؤتمن لهم جانب حسب رأيه، ولذا فالبعد عن الدول والحُكام أحسن حتّى لو كان الحاكم منّا، فكم بالحري الحاكم الذي ليس منّا والدولة التي لا هي منّا ولا هي لنا، فقضى حياته "الحيط الحيط ويا ربّي السترة".
لكن ورغم ذلك ليس بالضرورة أن تكفيه الدولة أو الناس خيرهم وشرّهم أو ربّما هو اعتبر ما أصابه منهم شرّا وهم من ذلك براء، إذ كثُرت وبالذات من أعيانهم الشكاوى على راشد على أنه يكفر بالأرباب ولا يقبل العطايا وليكفّ شرّه على الأقل عنهم.
لم يفهم أبو راشد كثيرا سرّ شكواهم، ولكنه وهو المعتقد أن قناعاته التي لبّاها لراشد لا تولد منه كفرا ولا شرّا وما الأمر إلا كبّ شرّ منهم عليه، لكنه وجد من الواجب أن يراجع ابنه، ناسيا أنه لبّاه أيضا أن يعيش نمرا، وإن لم تفرق حينها مع راشد "أنه وإن كان لا بدّ فلماذا يريده أبوه نمرا وليس أسدا والأسد هو الملك"، إلى أن سأله يوما فأجابه هذا باقتضاب: " النمر لا يأكل إلا من قتل يده"، وجاء ردّ راشد على والده وباقتضاب "في ناس ما بدها إلا نمور!".
ولكن الشرّ الأكبر الذي أصاب أبا راشد واعتبره شرّا لا يستحقه، أن قامت القيامة في البلد وراح أهلها يكفرون ب"الرب الصغير" جهارا نهارا وكثيرا قبل أن يكفر جيرانهم في بلاد العرب ب"ربّهم الصغير"، وهذا بحد ذاته شرّ في نظره أُولى ثماره الخوف على أبنائه وبالذات على راشد الذي كانت قد تباعدت لقاءاته به. فأبو راشد لم يغيّر تبنّيه نصيحة أهله غم انقلاب شكل حياته وبقي على: "نم بكّير وقم بكّير وشوف الصحّة كيف تصير" وراشد لم يعد يلفي إلى البيت إلا وأهل البيت في "سابع نومة" ولا يستيقظ إلا ووالده في "سابع قومة".
وإن كان هذا جعله يشتاق لراشد إلا أنه وهو المطمئن أن راشدا لن يكفر لا بالرب الكبير ولا بالرّب الصغير، لم يعط الأمر بالا حتى عندما صار "الرّب الصغير" وعَبَدته يصيحون من كفر فيه بلغ حدّ الإيلام غير المحتمل، قيل أن وراءه مجموعة نمور وعلى رأسها نمر أسود، تغزو ليلا وتختفي نهارا، واشتدّت الغزوات واشتدّت القيامة ودبّ الخوف في الرّب الصغير الذي اعتبره أبو راشد لا يعرف الخوف، ودبّ في عَبَدته أكثر، وخلت منهم شوارع البلد محتمين ب"صوامعهم" لا يبرحونها إلا عند الحاجة القصوى مدجّجين وراجت في البلد سمعة أنهم على أهبة رحيل.
في أحد الصبوح سأل أبو راشد أم راشد: "من الذي شقّ هذه الشقّة؟"، غير منتظر جوابا متجها نحو غرفة راشد شاقّا بابها ليجده غاطّا في نوم عميق، ولم يشعر أبو راشد حينها بالخوف لا من الرّب الصغير ولا على راشد ربّما لعمق نوم راشد وهدوء جبل الشيخ المواجه للدار.
أوائل أيار 2011