الانتحار ظاهرة في كل المجتمعات التقليدية والحديثة وليست جديدة، تمامًا كما هو العنف الجسدي والنفسي وكذلك القتل وجميع هذه الظواهر مرفوضة إنسانيًا واجتماعيًا ودينيًا.
قد تكون الأسباب متشابهة، كما جاء في البحث الذي أجراه الدكتور سليم بريك وأعلن عن نتائجه في اجتماع مع فضيلة الشيخ موفق طريف الرئيس الروحي للطائفة الدرزية ومجموعة مشايخ المجلس الديني الدرزي الأعلى. صحيح أن هذه الأسباب علميًا بحسب علم النفس وعلم الاجتماع معروفة كحب الذات (النرجسية)، الاكتئاب، أمراض مزمنة، وأضيف إليها الانطواء، الوحدة، الاغتراب، الأزمات الاجتماعية البيئية والاقتصادية والحروبات وما شابه ذلك وسأتوسع فيها فيما بعد.
بصفتي عامل اجتماعي، عمل ويعمل مع الصغار والكبار ومع العائلات والمسنين، وكناشط اجتماعي وسياسي له رؤية موضوعية لما يدور من حولنا بسبب الأنظمة السياسية، وخاصة الرأسمالية، وفي بلادنا بالأخص، فموجات الاحتجاج الأخيرة وإبراز الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية الصعبة من قبل الشباب، قد تؤدي إلى محاولات انتحارية حتى جماعيّة وتتبعها فردية إذا لم يتم تحقيق المطالب العادلة.. فهذا حسب رأيي سبب آخر للانتحار.
بما أن النشر حول البحث بيّن الأسباب التي عرضها الدكتور سليم كما ذكرت أعلاه ولا خلاف بيننا علميًا، ولكن الخلاف هو في عدم الدخول بتفاصيل الأوضاع العامة التي قد تؤدي إلى الانتحار وخاصة بين الشباب كما بينت في بعض الأمثلة كموجات الاحتجاج أو الأزمات الاقتصادية وغيرها، وماهية الأوضاع العامة التي تعكس أثرها على الفرد أو العائلة.
الحروبات مثلا بين الدول قد تؤدي إلى انتحار لدى الجندي المحتل بسبب بشاعة ما يرى، وكذلك عند الإنسان الذي يخسر المعركة إذا كان قائدًا أو إنسانًا بسيطًا. والأوضاع الاقتصادية الصعبة في العائلة بسبب أوضاع اقتصادية عامة فيها استغلال القوي للضعيف، فالبعض بدل أن يواجه هذه بالنضال ينعكف وبالإمكان أن يفتش عن الخلاص بالانتحار.
وكطائفة عربية درزية تعيش في مجتمع تقليدي فهي أكثر من غيرها معرضة لمحاولات الانتحار وللانتحار، لأنها فقدت هويتها القومية جراء محاولات خلق قومية جديدة لها "درزية" وهي في محنة وعدمية لأنها رسميًا غير معرفة بتبعيتها وهي لم تحقق المواطنة، وبما أنها لم تحققها فتبعيتها الاجتماعية تبقى لمجتمعها العربي التقليدي حتى سياسيًا وحقوقيًا. كل هذا يخلق بلبلة عند الشباب فمن ناحية هم يخدمون في الجيش مثل إخوتهم في المجتمع الحديث اليهود ومن ناحية ثانية يحيون الحياة ذاتها التي يحياها إخوتهم العرب في المجتمع التقليدي. كما أن واجباتهم درزية وحقوقهم عربية، يتغلب عليها التمييز وهضم الحقوق، ومن هنا فالخدمة الإجبارية في الجيش حسب رأيي المهني وليس فقط السياسي هي إحدى الأسباب العامة التي لم يتطرق إليها البحث صراحة وبشكل علمي.
سأتطرق في هذه المقالة لهذه الأسباب علميًا أيضًا، فما بالكم بالبلبلة عند الشاب العربي الدرزي قبل التجنيد وأثناء التجنيد وبعد التجنيد الإجباري. في صغره، وفي المدرسة الابتدائية والإعدادية والثانوية يواجه الشاب العربي الدرزي واقعًا مرًا لأن تفكيره يصب طيلة فترة التعليم بالحاجز الذي سيقف أمامه عند بلوغه سن الـ18 ،التجنيد الإجباري، وقلائل هم الذين ينتظرون هذا السن بوعي كي يتجندوا. الأكثرية الساحقة من الشباب تنتظره بدون وعي، وعند ساعة الحسم تحدث عند البعض وهم أكثرية، الأزمة النفسية أو الاجتماعية عندما يرى زميله من أبناء شعبنا في المدرسة يخطط إما للذهاب إلى إكمال التعليم الجامعي أو للعمل وكلاهما مربحان ماديًا ومعنويًا. فأما هو الشاب العربي الدرزي الذي يهدر ثلاث سنوات من حياته فهو يواجه أثناء الخدمة حياة تختلف عن حياته في المناطق حيث يخدم أو يسافر.. وأثناء الخدمة التي قد تكون إطارا صعبا اجتماعيًا ، يتلقى فيه أوامر قد لا يتحملها أو توجهات عنصرية من بعض الجنود العنصريين، مما يخلق عنده عقدة التخلص من هذا الإطار، إما بالهروب والسجن وإذا صعب عليه التحمل كونه ما زال في ريعان عمره وغير مجرّب عندها يكون احتمال الانتحار كبير جدًا.
ويحدث ذلك أيضًا بعد إنهاء الخدمة العسكرية عندما لا يتمكن من بناء بيته على أرضه المصادرة أو المهددة بالمصادرة لأنها لا تتبع لمسطح القرية أو المدينة. وهو يحاول أن يعمل لكسب رزقه ولا يستطيع تمويل كل المطلوب في فترة قصيرة كما فعل ويفعل زميله ابن الطائفة العربية الأخرى فيلجأ للانطواء أو استعمال المخدرات أو التسول في الشوارع أو دخول عالم الإجرام، فغالبية هذه المشاكل الاجتماعية قد تؤدي في النهاية عند البعض للانتحار.
ولهذا وحسب ما نرى ونلمس وما نعرف من ظواهر حدثت هنا وهناك قبل الخدمة الإجبارية وأثناءها وبعدها، فغالبيتها توصل إلى الأسباب التي ذكرها الدكتور سليم وتكون هي العامل المشجع للانتحار. ونسأل لماذا عند الذين يتجندون اختياريًا من أبناء شعبنا العربي نسبة المنتحرين معدومة، لأن الطلب جاء منهم ولم يفرض عليهم كما فرض التجنيد الإجباري على أبناء الطائفة العربية الدرزية.