لا أستطيع ان اكون ناقدا – في إطار الأدب والشعر – بالمعنى التقليدي ، وبالأسلوب التقليدي المعهود .. لا لعدم توفر أدواتي في ذلك ، ولعدم دراستي أصول النقد الأدبي في مدارس الأدب وأكاديمياته وحسب . ذلك الأدب المبني على الإلمام بقواعد اللغة ، ثم بأساليب الكتابة في القصة والرواية والشعر وسواها من ألوان أدبية . بل لأني وبكل وضوح كنت أريد أن أقرأ في كل ما أقرأ من نصوص ،لغة تحمل تجاوزا ، أو شيئا من التجاوز للواقع الظاهري ، الذي يولد ويموت فيه كل شيء ، كأضغاث أحلام .. كنت أريد ان أرى في جل ما يُكتب ،ليس فقط أجنحة تحلق بأصحابها في ذات الأفلاك التي تتطاحن فيها ذات المخالب والمناقر منذ أول اعتداء وأول تمزق بين أخوين من أبناء البشر.. كنت أريد أن أقرأ ليس فقط سيوف تلمع وسهام تطلق وصواريخ تتفجر .. أو ورود وأزهار وفراشات وعصافير ، كأن حياتنا حرب في ساحة حرب ، أو نزهة عابرة في حديقة زائلة . بل كنت مع كل ذلك ، وإلى جانب كل ذلك ، أريد ان أرى في ما يُكتب ويُنشر، منافذ وكوى ً أطل بها ، بل أمهد لنفسي الخروج عبرها لعالم الحقيقة الجوهرية للإنسان وللعالم ، رغم كل قسوة المعاناة التي يعيشها المرء في هذا الواقع – شاعرا كان أم عاديا – ورغم المعاني الكبيرة والمعاناة الأكبر التي يرى الشاعر من خلالها مشاكل محيطه وقضايا بيئته تترادف على نفس المحاور من الصراع منذ " آدم الطيني حتى آدم النووي ".. لكن وفي كل الأحوال يظل الحكم على النوايا والدوافع والمحركات والغايات ، التي يدور في أفلاكها الشاعر . لأن الطامح إلى الشيء بصدق وإخلاص ، هو في حكم الواصل إليه، وإن يكن من وراء ستار ، ليس فقط كما بالمفهوم الديني (الأعمال بالنيات ) بل أيضًا وأصلا ً بالمفهوم السببي والسيكلوجي والفلسفي والعرفاني ،على حد سواء ، فكما تفكر كذلك تكون ، والله من وراء القصد ..
ويحيى عطاالله في "الصهيل " كان أصيلا جميلا في نواح ٍ عدة ، بحيث لا يمكن الفصل لديه بين مضامين قصيدته وبين صفاته كإنسان أولا ً ، ثم كعربي حر .. وحر هنا لا بد من توكيدها للفرد العربي عامة، ليس فقط المثقف والشاعر . لأن الإنسان العربي عامة ،يعاني شعورا عميقا بعدم الثقة بنفسه وبأمته ، حتى بات يشك في تاريخ هذه الأمة وفي ما وصل إليه في هذا العصر من أمجاد أجداده ،عن عصر الرسالة المحمدية وما تلاه من ازدهارات جامعة لدى الأمويين والعباسيين والفاطميين والأيوبيين ،وصولا لعصر الانحطاط . نقول هذا دون تجاهل ما يحدث في الواقع العربي اليوم من ثورات مناهضة للأنظمة الدكتاتورية والشمولية ، وقد بدا الإنسان العربي كالعنقاء ينفض رماد الموت والأجيال عنه لينبعث من جديد مؤكدا وجوده ومكانته التاريخية بين الأمم ، ومؤكدا حريته .. وان كان من المثير للإعجاب والإكبار أن يثور المواطن العربي ضد الطاغية الحاكم في بلده فيضحّي بكل شيء في سبيل كرامته وحريته ، فلا أقل من ذلك سببا للإعجاب والإكبار ، ان يقوم من بيننا هنا في جليلنا (يركا ) من يحمل راية الحرية والكرامة والعنفوان فيواجه الواقع الصعب بصرخته الأدبية الشعرية الإنسانية والعربية ، وهو أصيل في كل ذلك ، مثلما تجلى في " صهيل "
فالتنظروا والتسمعوا
ولتقرأوا غضب الجريح" ..
هذا الغضب الذي عانق الجمال فتلطف وتجسد في صور شعرية متكاملة بين الكلمة والموسيقى والمعنى . لقد تميز عطاالله عن كثيرين بحسن التزامه طوال ديوانه ، بدقة وترابط ومتانة أبياته ، وهو بلا شك من بين كثيرين اليوم ممن يكتبون الشعر ، يستحق لقب شاعر . لا يمكن هنا الاستشهاد بعرض ديوانه (صهيل) الذي يبالغ الشاعر فيه بالاعتزاز بسبقه سواه في التجديد – كما يقول - :
أين إسمك ياحصان ..؟
وأين رسمك في القريض وأنت رمز حماسة ؟
لا شاعر غيري اصطفاك
لتعتلي متن القوافي ..
ثم تصهل في عبارات القصيده
لا فارس غيري اعتلاك مهلهلا
ومرتلا ألحان بادية جديده "
أراوغ عروة ً فوق الخبايا
لتطلعني على سر الصدور ِ
فأنزل في هضاب العاج سني
وعند السفح أكثر من شروري
الإنسان الحر فعلا لا يستطيع التلون والاستمرار في إخفاء ما يخفيه الضعفاء من كوابت ، هي جزء لا يتجزأ من الطاقة الحياتية وليس بدعًا شخصيًا خاصًا، فيطلق الشاعر لنفسه ألسنة خوالجه بعفوية كماء السبيل :
دعيني أعاقر ماء الضلال
وأشرب نخب انحرافي
دعيني أفارق رشدي
لأشهد ان الحياة جميلة
وأرنو إليك بعين ٍ بديله
دعيني أغادر هذا اليقين
وأهجر شكلي
أحلق فوق وجودي
.. .. ولو بالثماله "..
ان في هذا التوجه ، وفي هذا التمني وفي هذه الرغبة الساحقة، أكثر بكثير من مجرد تعبيرا عن نزعة في الخروج على الواقع المملول والروتنيني والتعيس والمغبون، والانطلاق منه لعشق آخر ولسعادة أخرى ولحرية أخرى عادية ،يتلمسها الشاعر في كأس شراب وشطحة جنسية. بل هو توجه يطوي مطلب نورمتيفي طبيعي لإنسان ، تفتحت مكامن أعماقه - من وراء الوعي التسليمي العادي بالأشياء والعلاقات – وما القصيد هنا سوى محاولة للجمع بين نقد الواقع والتمرد عليه وخلق بديل له في آن ،وهي خطوة لا بد منها – حسب اعتقادي – لمن يسير في سبيل التحرر بالمعنى وفي المنحى العرفاني في النهاية ، هو جزء لا يتجزأ من التعري الباطني الضروري ، في موازاة التعري الخارجي اليوم، وهو الطريق الوحيد، كما يبدو ، للقضاء على النفاق والازدواج الذي يعيشه أبناء المجتمع المحافظ ، كي يتم الالتقاء بسائر المجتمعات الأخرى في السير نحو حقيقة وجودهم الواحدة أخيرا. وكيف يصل طالب حقيقة الوجود لحقيقة وجوده ، دون " مغادرة لليقين " الفئوي التقليدي المفروض غيبًا ، ودون "هجران " تجاوزي " لشكل " وجوده المُصطنع ..
في الحقيقة ان التعليق على الديوان كله يحتاج إلى كتاب لا إلى مقال ، لكني أختصر متمنيا للشاعر دوام الصحة ودوام العطاء ،وحسبي انني شعرتُ في قراءته ما كان يتمنى الشاعر الحصول عليه من "عرّافته الجميلة جدا ً ":
فإني ان تحقق ما ببالي
سأرقص في السماء مع الطيور ِ
وأمطر من دمي فرحًا وأشدو
مع الأنسام هبات السرور ِ
وأغدو مترفا من غير مال ٍ
مليكا ً يستعز بلا قصور ِ
فمن يظفر بحظ ٍ مثل هذا
يعِش أغنى وأسعد من أمير ِ