القصة وأبعادها:
"على خد الحلم" مسرحية غنائية راقصة لمسرح الحنين في الناصرة، تأليف: ادمون شحادة، إعداد وإخراج: كامل الباشا.
تناول الكاتب ادمون شحادة في هذه المسرحية قصة المرأتين اللتين احتكمتا لسليمان الحكيم وكل منها تدعي أن الطفل ابنها، فيأمر بتقطيعه إلى قسمين لكي تأخذ كل منهما قطعة، ولكن قلب الأم الحقيقية أبى أن يقتل الطفل، فتطلب أن تعطيه سالمًا للأم الكاذبة، ولكن سليمان بحكمته يحكم بإعادة الطفل إليها لأن هذا دلالة على أنها أمه الحقيقية. فالأم الحقيقية لا ترضى بموت ابنها حتى لو كانت ستخسره الآن.
تنزاح هذه القصة بشكل واضح نحو الرمز الذي تحمله، لأن التداعيات على القضية الفلسطينية مباشرة وتنعكس تماًما على مجريات أحداث المسرحية. فالطفل هو فلسطين والأم الحقيقية هم الفلسطينيون والأم غير التي تدعي الأمومة هي إسرائيل. ويذهب المؤلف إلى أبعد من ذلك بتدخل شخصيات أخرى تلعب دور المؤيد والداعم للأم الكاذبة، تمامًا كما يلعب الرأي العام العالمي دوره في مساندة فريق على فريق، وجانب على جانب. وأما التطور الحاصل على الساحة الفلسطينية ينزاح أيضًا بهذه المسرحية على أحداثها، وهو قضية المساومة على الأرض، فهذا يبيعها بكيلو تفاح، وذاك بحبة برتقال، والآخر بشيء من الخضار أو الفاكهة، وتندرج هذه المساومة بما يجري في المفاوضات الفعلية على القضية الفلسطينية. ويروح الكتاب بنظرة ثاقبة وفكر عميق إلى أبعد من ذلك ليضع الشخصية الرئيسية للملك سليمان وكأنه الرئيس الأمريكي أو الدول التي تدور في فلك أمريكا، يحاول المساومة، ولكنه يفرض أمرًا واقعًا مغايرًا لمفاهيم العدالة والحق.
إن هذه المسرحية تختلف عما كتبه الأديب ادمون شحادة، وأبرز فيها قدرته على طرح القضايا التي يجدر بكل كاتب محلي أن يطرقها، وكل مسرح أن يعرضها، وهو يثبت أن لدينا حركة أدبية وحركة مسرحية تخدمها. وأن أدباءنا لديهم من القدرة الإبداعية والفكرية ما يؤهلهم لكي تعرض أعمالهم على المسرح وقصائدهم في الغناء. ونأمل أن يزيدنا الكاتب المبدع ادمون شحادة أبو إلياس (واسم ابني إلياس)، ويتحفنا بأعماله الغزيرة والغنية بمعانيها ومضامينها.
الإعداد والإخراج:
كامل الباشا فنان فلسطيني معروف برؤيته الإبداعية ونظرته الفنية المميزة، وقد شاهدت بعض أعماله، فرأيت أنه بلور الفكرة الناضجة للكاتب ادمون شحادة، ومنحها حجمًا أكبر وزخمًا أكثر في تحركها وتطورها الدرامي على المسرح، مع الشخصيات المتحركة تمثيلاً وغناء وحركة عامة. وربما يظن المتفرج أنه يشاهد رقصات على المسرح، ولكن يخيب ظنه عندما ينتبه إلى الحقيقة التي أمامه، بأن هذه الحركات والتحركات جاءت لتخدم النص والشخصيات في أداء مغازيها وأهدافها.
وتناسق الإعداد مع الإخراج واستطاع أن يصعد الفكرة نحو مرتفعات جميلة، وتأزم بليغ، وجادت الشخصيات بقدرات فنية وإبداعية فرضت السيطرة على الجمهور. فمثلاً جاءت الرقصات أكثر منها حركات إيقاعية لتجعل المسرحية حركية وليس راقصة. حتى الأغاني التي استمعنا إليها لم تتطلب أداءً طربيًا، لا رجوليًا ولا نسائيًا، ولذا تماشت الأغاني مع النص الحواري، تناسبت مع الفعل الدرامي، وهذا التوظيف خدم بلوغ هدف المسرحية. ألا نستمع اليوم إلى الأغاني الطربية وغير الطربية؟ فالطربية نعرف كلنا ما تفعله في الروح والنفس، ولكن غير الطربية اعتبرت مخرجًا للذين يؤدونها، فلا داعي أن يتحلوا بصوت جميل ولا بلحن جميل، فيسمى أداؤهم غناءً لأجل الترويج والانتشار والشهرة وليس للمساهمة في التطور الثقافي والفني للأغنية العربية أو للثقافة المحلية.
وإذا كان الجمهور يظن أنه سيشاهد شخصيات تتحرك في أحداث صاخبة كما بالأفلام والمسلسلات العربية، الخليجية منها والمصرية، أو التركية منها والمكسيكية، فقد رأى شيئًا مختلفًا أمامه على المسرح. لأن المخرج أضفى على المسرحية جوًا مغايرًا، فلم يدع الممثلين يبنون أدوارهم بناءً عاطفيًا أو دراميًا، بل رأيته يقترب من المسرح التغريبي البريختياني، الذي يخاطب العقل لا العاطفة، وبالتالي يؤثر في المتفرج فكريًا وليس دراميًا. وقلما نشاهد أعمالاً فنية تغريبية بحسب المسرح البريختياني، لأن هذا الأسلوب حديث، مضت عليه ستون سنة وربما سبعون، وهو من أصعب الأساليب المسرحية تنفيذًا ويجب أن يتحلى المخرج الذي يعرض مسرحياته بموجبه بميزات ثقافية رفيعة.
وتمكن المخرج من استخدام سائر المقومات المسرحية أمام الجمهور كالموسيقى والملابس والإنارة، وساهمت هذه كلها بنجاح المسرحية وخلق الجو المناسب لخدمة الشخصيات والأداء الفني. وبالإجمال فإن المخرج كامل الباشا يرسخ مكانته الفنية في عالم المسرح المحلي.
التمثيل:
قام جميع الممثلين على المسرح بأداء أدوارهم، أداءً غير مألوف. وقدموا كلهم دون استثناء أدوارهم التي رسموها بدقة وبإخلاص، عدا عن الفنان المعروف لطف نويصر، فهذا الفنان الموهوب والذي يستطيع أداء أي دور يسند إليه، لم يلعب دوره كما يفعل بعض الفنانين العرب، وخاصة المشهورين منهم، بحيث تعتمد المسرحية على هذا النجم أو ذاك للترويج والشهرة. وقد شاهدت عددًا من المسرحيات العربية التي لعب فيها الممثلون النجوم أدوارًا فاشلة فنيًا ولم يقدموا أدوارهم كما تتطلب الشخصيات، بل اعتمدوا على شهرتهم ولمعان نجمهم ليكسبوا في شباك التذاكر وليس ليقدموا فنًا جميلاً.
فالفنان لطف نويصر لم يعتمد على شهرته أو نجوميته لكي يغطي ويطغى على سائر الممثلين زملاءه، فيلمع هو ويسقط الباقون. ولاحظت أن لطف احترم الممثلين جميعًا بحركاته وتصرفاته ودوره المميز وبالتالي احترم جمهور المشاهدين بتقديم عمل مسرحي جماعي. وهذا الاحترام ينعكس من الفنان على احترامه للفن عمومًا، فجاءت المسرحية متناسقة بعناصرها وجوانبها. ولم يستغل هذا الفنان المبدع ذو القدرات التي نعرفها فيه من تمثيل وغناء ورقص، هذه القدرة إلا ليقول لسائر الممثلين: هيا نرتقي كلنا بالعمل معًا، نحو جماليات خلاقة وإبداعيات جديرة بأن تساهم في صناعة المسرح المحلي.
وبغض النظر عن الهفوات أو الزلات الطفيفة فإن الممثلين أجمعهم قدموا أصواتهم غناءً، وحركاتهم تعبيرًا، لخدمة المسرحية. ولا يفوتنا الدور الموسيقي الذي أضفى جمالاً على الجو العام وكذلك سائر الأدوات والمحسنات.