السائد في الخطاب الرسمي للقيادات السياسية والنخب الثقافية العربية في إسرائيل هو أن تقسيم وشرذمة مجتمعنا العربي الفلسطيني إلى مجموعات طائفية وعائلية متناحرة هو نتاج لسياسة إسرائيلية سلطوية ممنهجة تعمل على تمزيق النسيج الاجتماعي للأقلية العربية من أجل إضعافها وتسهيل سيطرة السلطة وأذرعها على الحراك السياسي- الاجتماعي فيها. ورغم أن هذا التشخيص صائب إلى حد كبير إلا أنه يغفل العوامل الذاتية التي تساهم في تفتيت شعبنا من الداخل عبر ممارسات وسلوكيات تقوي الاستقطاب الطائفي وتحول دون تبلور هوية وطنية جامعة يندمج في بوتقتها أبناء الأقلية العربية على اختلاف طوائفهم وانتماءاتهم الفئوية.
من المعلوم أن المجتمع العربي في إسرائيل يتكون من ثلاث طوائف دينية لكل منها مقومات اجتماعية وثقافية خاصة بها تميزها عن غيرها، وهذا أمر طبيعي يعكس التعددية القائمة لدينا وهو مصدر غنى حضاري نعتز ونفتخر به. على الرغم من ذلك هناك قوى وجهات فاعلة في الحيز العام تلعب دورًا مركزيًا في تغذية الانقسامات الطائفية ونشر التعصب والعنصرية في صفوف أتباعها. وبإمكاننا أن نجمع هذه القوى تحت ثلاث مسميات وهي: الأصولية الإسلامية، الانعزالية المسيحية والرجعية الدرزية.
الأصولية الإسلامية، ممثلة بشكل أساسي بالحركة الإسلامية، تبني خطابها السياسي على أسس دينية غيبية وتعمل على تكريسها على أرض الواقع عبر شعار "الإسلام هو الحل" والذي يعني بعرفها أن تطبيق الشريعة الإسلامية هو السبيل الأمثل لحل جميع المشاكل التي تعاني منها الحضارة الإنسانية. إن تنامي الأصولية الإسلامية وانتشارها على نطاق واسع له أسهام كبير في إضعاف الوحدة الوطنية وتفكيك عرى التلاحم بين أبناء الشعب الواحد، بالإضافة إلى أنه يثير مخاوف جدية لدى الطوائف الأخرى التي تشعر بأن المد الإسلامي الأصولي يهدد وجودها ويشكل خطرًا حقيقيًا عليها وبالتالي تلجأ إلى التقوقع والانكفاء على ذاتها.
الانعزالية المسيحية هو تعبير جامع لمختلف الأطر والهيئات التي تشترك مع بعضها بالاعتقاد بوجود هوية مسيحية منفصلة عن الانتماء العربي وتعمل على خلق كيانية مسيحية غير مرتبطة بمحيطها. إن هذا التوجه آخذ بالانتشار في أوساط عديدة لدى الطائفة المسيحية التي باتت ترى بأن صلتها بالغرب أعمق من علاقتها بالشرق العربي، وهذا ما يدفع بتلك الأوساط إلى الانعزال عن العرب الآخرين وإضمار العداء لهم لمجرد انتمائهم الطائفي. كثيرًا ما نلاحظ لدى هؤلاء وجود نظرة استعلائية على بقية الطوائف نتيجة اعتقادهم بوجود فوقية مسيحية تضعهم في مصاف المجتمعات الراقية والمتقدمة بينما يقبع الآخرون في وحول الجهل والتخلف حسب تصورهم.
الرجعية الدرزية تتشكل من مختلف القوى والشخصيات التي تعمل على تنفيذ المشروع السلطوي الرامي إلى سلخ الطائفة الدرزية عن محيطها العربي واصطناع هوية درزية منغلقة على نفسها. يدعي هؤلاء بأن الدروز يشكلون مجموعة إثنية لها خصوصيتها الثقافية والعرقية المختلفة عن العرب ولا يعتقدون بوجود صلة تربط الدروز بالهوية العربية. لذلك يرفض أصحاب هذا الادعاء الانخراط في صفوف الأحزاب والمؤسسات العربية التي يعتبرونها لا تمثلهم ولا تعبر عن تطلعاتهم، وقد ربطوا أنفسهم بالمؤسسة الإسرائيلية طمعًا في الحصول على بعض الموارد وتحقيق عدد من المصالح وإن أتى ذلك على حساب تنازلهم عن دائرة انتمائهم الأصلية. ولا بد من الإشارة إلى أن الرجعية الدرزية تكن العداء للطوائف الأخرى وتعمل على نشر الكراهية تجاه الغير في صفوف أتباعها.
إلى جانب هذه القوى الطائفية فإن الأحزاب والحركات السياسية العلمانية، التي من المفترض أن تعمل على تقوية الرابطة القومية بين أبناء الشعب الواحد، أخفقت هي الأخرى في تحقيق مشروع الوحدة الوطنية والعيش المشترك، لا بل ساهمت في تكريس البنى التقليدية في المجتمع العربي. ولا يخلو حزب عربي من نزاعات على خلفية طائفية، والتي تطفو على السطح بشكل بارز أثناء المعارك الانتخابية البرلمانية والمحلية، التي تلجأ فيها الأحزاب إلى تشكيل قوائمها وفق تركيبة طائفية تضمن "التمثيل اللائق لطوائف شعبنا". وهي بذلك تتلاقى، من حيث كانت تدري أو لا تدري، مع مشروع السلطة الهادف إلى تمزيق وحدة شعبنا، والذي تدعي محاربته والتصدي له.