حفيدي الحبيب الذي حمّلوك اسمي...
لم أطق صبرا حتى أغدو في مستقبل كل ماضيه وراءه لأكتب لك.
أخافتني وحيّرتني في حياتي أمور كثيرة لا أوّل لها ولا آخر وأخافتني وحيّرتني أكثر تلك التي ما بعد حياتي، فأشغلت نفسي عن كل هذا بما لا يعد ولا يُحصى هربا من هذا الخوف وهذه الحيرة ومعها رعب لم يغادرْني يوما، من نقطة الالتقاء ما بين ما قبل وما بين ما بعد، ولاتَ نجاةٍ رغم كثرة ما أشغلت فيه نفسي.
يخيف المرءَ عادة ويحيّره في "أضعف الإيمان"، كلُّ ما هو عصيّ على إدراكه، فكان عصيّا على إدراكي إن كانت روحي ستُنسخ أو ستُفسخ أو ستُرسخ، والنسخ عزّاني وأمّا الفسخ والرسخ فأرعباني، تماما كما أرعبتني خفايا ديار البرزخ والعيشُ في رحاب أهلها إلى يوم يموت الأحياء ويقوم الأموات، وفي هذه عقّدت حيرتي كثرة الضحايا في "دواحس وغبراوات" العرب الحديثةِ وكلّ فرسانها وشيوخها ونسائها وأطفالها أحياء عند خالقهم يُرزقون، من أهل داحسَ كانوا أو من أهل الغبراء.
وها جاءت نقطة الالتقاء ما بين ما قبل وما بين ما بعد تماما كما تمنيتها على غير أوان متوقع ودون سبب متوقع فكانت أهونها، فلا كان فيها وداعُ أحبّة ولا دموع مخنوقة ولا ابتسامات مزيّفة ولا انتظار مرعب.
لا تسألني حفيدي الغالي... في هذه المرحلة كيف أحكي عن ماض بدون مستقبل، وأعدك وعدا لا خلل فيه أن لا أخفي عنك أمرا وسأفسّر لك المعقّد منه، وإن لم يكن في هذه الرسالة ما يفسّر لك، ففي الآتيات.
في لحظة الغيب والغيبوبة هذه التي بين ما قبل وبين ما بعد، والتي لا يعرف كنهها إلا من سبقني إليها، كنت هائما في بحر خوفي ورعبي ورغم أني مستقبل يجب أن لا يعرف الماضي إلا أني كنت في ماض هو مستقبل الماضي (فهل فسّرت لك؟)، منشغلا في أني إذا كنت "انتسخت" فأنا الآن طفل يغبّ حليب صدر أمه، اللهم إن كانت أمي صوماليّة ماتت على فراش استقبال روحي جوعا في انتظار انتهاء الحرب الليبيّة، أو أفغانيّة أو فلسطينيّة غزّيّة أو عراقيّة أو كرديّة ضاع صراخ ولادتي مع انفجار صاروخ أو سيّارة مفخخة مزقها قاطعا حبل صرّتنا بعد أن كوّمت جسدها الدامي فوقي غرائزيّا، أو غابّا حليب صدر فاعلة خير لم يجف بعد حليب أثدائها إذ رافق وليدُها أمي.
وإن كنت "انفسخت" يا فلذة كبدي... فأنا الآن لا شكّ شبلٌ وليد إن وفّرني والدي في حمأة هياجه الجنسيّ سأصير أسدا ينتظر إلى أن يصنع الخالق فيه أمرا كان مفعولا. وإن كنت "ارتسخت" فأنا الآن حجر محميّ أبديّ، اللهم إلا إذا التقطه صبيّ في الخليل يطيّر منه روحي مع خوذة جنديّ، وعندها لا شكّ ستعود روحي لطفل إذ أن موتي ارتطاما في الخوذة "انتساخ" غفرانا لروحي على ما اقترف ثوبها بإيعاز منها حتى "ارتسخت". أو أنا الآن شجرة ضائعة في صحاري الصومال قوَّتُّ من أوراقي أطفالا كانوا في انتظار انقضاض كواسر السماء التي أتخمت حواصلها رغم الجوع المستوحش، فيبُست جذوري دونها ف"انتسختْ" روحي وفي هذا عزاء لي ولك.
أمّا إذا كانت روحي حائمة في رحاب برزخ خالقها مع الملائكة أو الشياطين تنتظر يوم يموت الأحياء ويقوم الأموات فالأمر محتمل والأمل معقود على جنّات خلد، أمّا جهنم فلا أعتقد أنها مصيري فاعلم أني لم أفعل في حياتي ما يستحق ذلك فقد دأبت أن أبتعد عن الكبائر طريقِها فلم أقتل نفسا ولم أهتك عرضا والأهم لم أخن وطني، وبعض الصغائر التي ارتكبت لم تبلغ حدّا وإن مجتمعة، أن ترمي بي في جهنّم. فارفع رأسك يا حفيدي... !
ولكن في هذه الأثناء وإلى أن يصير ماضيّ ماضيا لمستقبلي، أودّ أن أفيدك أن في نقطة البين وبين هذه ما بين الماضي والمستقبل الذي لا حاضر لهما، تظلّ الروح هائمة ولا ترحل قبل أن تحمل معها المراثي زادا ظرفيّا لها للقيامة الصغرى وللقيامة الكبرى. زاد ليس بالضرورة يقررّ مصيرا على ما تبيّن، لا نسخا أو فسخا أو رسخا ولا برزخا نيّرا أو آخر مظلما، لأن القرار يكون قد كتب وكثيرا قبل المراثي استجدت رحمة أو لم تستجد. ولك أقول وحيث أننا وأنتم في مرحلة ما قبل موت الأحياء وقيامة الأموات وما قبل الخلاص من الفسخ والرسخ، فلربمّا للصادقات منها مكان وفرصة للقبول.
وأخيرا حفيدي الغالي...
إن كان لي أن أقيّم وفي تقييمي هذا عزاء لك فعلى الأقل أنا أعرف، وقد تزوّدت في نقطة الزمن ما بين الارتحال والمواراة بالكثير من البيّنات الظرفيّة، أنّ مرثيّتك يا حفيدي كانت الأصدق ولذلك كانت كذلك الأشد إيلاما وعلى ما يبدو ستكون الأكثر قبولا!
وما حيّرني في ماضيّ لم يبرحني في التقاء ال- ما قبل بال- ما بعد، وفي رسالة قادمة إن تقيّض لها أن تُكتب، سأخبرك إن تحرّرت من إسار حيرتي وخوفي.
نصّ...سمِّه قصّة إن شئت !
أواخر آب 2011