أبى الدكتور منير توما إلا أن ينجز ثلاثة دواوين شعرية دفعة واحدة مودعا بها العام 2011 ، وهي خلاصة سنوات قليلة من العطاء في مختلف الموضوعات الحياتية .
الملمح الاول الذي استمالني كقيمة اخلاقية عند توما ، هو سعيه للحفاظ على المظهر الاجتماعي الانساني . ولم أفاجأ بهذا كوني خبرت الرجل ولمست طيب معدنه .
" سِر يا نقي فالنهر في فيض العذوبة قد حَزم / أبعد رداء الشر ولنعمد الى غالي القيم " .
ليس باستطاعتي في هذه المقالة المرور عن مئتين وثمانين صفحة ، دواوينه مجتمعة ، إنما المحطات البارزة هي هدفي ، لا سيما هذا التشاؤم وهذا التذمر في اكثر من حالة شعرية .
" دعوني أرسم لوحة / ألوانها من سواد الليل / وبياض الفجر / واصفرار الشقاء / فالقلب قد مل / ما في النفوس / من حقد ورياء " .
صورة قاتمة جدا ، لكن الشاعر لم يغلقها تماما بقوله " وبياض الفجر " ، لا يقطع الامل ، لذلك نرى التناقض في قصيدة اخرى .
" لا أحب الليل / لأنكِ انت الصباح / أنتظره .. / بعيون تأبى النوم " .
ويستمر بالتملص من تذمره رويدا رويدا حتى يصل الى فسحة من الغبطة والحبور .
" وشمسكِ انا .. لا تستقيم / إلا بأنوار وجه / يبوح بالأمل / عند فجر صيف / لا يعرف الضباب" . لكنه سرعان ما يعود الى قلقه وتبرمه ، فيلجأ مرة أخرى الى المرأة كمسعفة ومنقذة " ما زلت انتظر قدومكِ / كي أحيا من جديد " .
وهو يخشى أن لا تلبي النداء ، فيسلك طريقة الترغيب والإطمئنان .
" لن تهزمي / مع صبّ / يحترم ايام الصفاء / ولا يفرط أبدا / بأجواء النقاء " .
في هذه القصيدة ومواقف عاطفية أخرى نكتشف ان الشاعر لا يهتم كثيرا بلغة الجسد قدر ميله الى الهوى العذري ، ويخيّل الي بناء على بعض غزلياته ذات الإيقاع الحزين ، أنه قد صدم في الماضي صدمة عنيفة ، عاطفية على الأرجح ، فكان لها التأثير المباشر في شعره وذاكرته .
يلح عليّ سؤال افتراضي : من هذه الإمرأة التي ما زال ينتظرها ، وقد استوطنت ذاكرته وقلبه ، لا تبرح هنيهة إلا لتعود حضورا طاغيا ؟ ! .
وبمناسبة الذاكرة يتضح لنا أن ذاكرة الشاعر ليست اسفنجية تمتص كل شيئ .. بل هي الذاكرة الجيدة تقوم بعملية الفرز والإختيار من وقائع واحداث ماضية ، منها المفرح والمؤلم ، وبعض هذه الذكريات غير السارة كانت جزءا من احساس الشاعر بعبثية الزمن ، فقال قولا لا يعتبر جديدا في معانيه ، لكنه يعكس بالتأكيد ما يعتمل في نفس الشاعر من ضجر وضيق ، وقد يفسَر خطابه على أنه زاهد في الدنيا غير متعلق بها .
" يمضي قطار العمر / ونحن تائهون / في دياجير الزلل / تمضي الأيام / ونحن نحلم بأمل باسم / يضيع كل ساعة / دون ملل " .
ما يجذبنا الى أشعار توما أنها بسيطة واضحة ، وأنه يختزل موضوعاته مع التركيز على النقاط الرئيسة ، وإذا توخينا الصدق في كلماته كميزة تضفي على الشعر جوا من الإرتياح ، يمكننا أن نقوم بعملية قياس الألفاظ عبر قراءة متمعنة متئدة ، فإن كانت الألفاظ ملتوية مترددة ، أو مبتذلة ، فهي ليست في صالح الشاعر ، وإن بدت صريحة وسلسة ، فالشاعر صادق وأصيل . وهو أصيل فعلا الشاعر توما ، وقادر أن يقنعك باستساغة شعره المحمل بالثقافة والتجربة .
وتراني لا استغرب المستويات المتفاوتة في شعره ، فتارة ينقلني إعجابا وصعدا ، وطورا يرغمني على القول : حبذا لو أنك حذفت من اوراقك القصائد التالية " افكار هاربة . كلمات بلا أجنحة . اختلاجات . ضياع اللون والمسالك " .
هذه القصائد سطحية وفجة يا صديقي ، كثمرات قطفت دون نضجها ، وبالأصح لا ثمر مطلقا ! هل كان شيطان الشعر مسترخيا ؟! أم أن العوامل والظروف تكوّن مناخا معينا من التفكير .
مما لا جدال فيه أن الحكم في الشعر يجري على الأكثر ، فإن كان الغالب جيدا ، فصاحبه شاعر بحق وحقيق ، وإن كان العكس فالجواب واضح .
هلا بالدكتور توما في ميدان الشعر الجيد .