اعتدت الكتابة . كانت الملجأ الوحيد المتبقي . اعتدت التنكر للكلمات. تربعت فوق عرشها واستثمرت من أجلها الكثير من الاحترام والخصوصية.
في ذلك اليوم . حيث الغذاء هو من اقترحه, اقتناه وجلبه. تبدأ تباشير الصباح ,فالاستيقاظ , الخروج من البيت ,فالرجوع , تناول الغذاء , فالنوم ....النوم الذي جافانا لواحد و وعشرين يوما. قض مضجعنا. نوما هو استسلم له بقوة من الخالق عز وجل. كانت الأيام تمضي ونحن نستحضر أمامنا البرنامج اليومي. الاستيقاظ , فزيارته ,العودة للبيت , فزيارته مرة أخرى .للاطمئنان أن كل شيء على ما يرام إلا كل شيء , كل شيء يسير على منحنى ما رسمنا إلا ما اعتقدنا إننا خططناه . ليس الحزن هو موقفنا ، إنما الدهشة التي رافقت تلك الأيام السابقة , أصبحنا جزءًا لا يتجزأ من تكرار الحياة في مشفى الجليل الغربي . بتنا لا نشعر إلا بأمل يحوم حول هالات عينيه التي ترفرف حاجة لنا كلما أضأنا نور غرفته القابعة في قسم العلاج المكثف. بتنا ندخل إليه بلهفة مسافر عاد, ونخرج بوداع على أمل الالتقاء. بتنا نغادر المشفى وعند الوصول للبوابة , بتنا نعود إليه , بغية افتقادنا إليه , بكل ما أوتينا به من افتقاد.
ليس الألم هو موقفي . كان الأمل أن يعود قابعا بالأوردة والشرايين , ذلك الأمل الذي كنت أغذي به دموع الأم والإخوة. وانه يفزعنا قليلا ليعودا طويلا . بت أرى نظرات احتياجه لقول شيء ما والبوح لنا. تبا للاجهزة التي تناوبت على إزعاجه كل تلك الفترة .جاء اليوم الثاني من الأسبوع الثالث على مكوثه في مكان لن أطيق بعد الآن دخوله والتجول بأرجائه. حانت زيارة فترة العصر . ندخل كالعادة بلهفة مسافر عاد , لكن ليس لغرفته , إنما لكهف الخوف. الكهف الذي ابتلع أحلامنا خلال نصف ساعة زمنية . كان يصارع الحالة التي صارعها قبيل ثلاث أسابيع . لكن بجسد أوهن وقلب طفل لا يقوى على النهوض ثانية .كان يصارع على استنهاض أعضاء جسده ,لكي تبقى على جبروتها كأيام الشباب . الغرفة محجبة عنا , مضيئة و مفزعة بعدد الأطباء والمساعدين . يخرجون , يدخلون . والقلب كذلك . تفزع الأم ,تهدأها الابنة بقولها أن الأب ببساطة يواجه عقبة سرعان ما ستنتهي . تفزع الأم و تخشى أن تخشى شيئا غير الموت .
تبدأ بمهاتفة ...الأبناء ...والأقارب ....لوداع الوالد .لم أستوعب للآن ما حدث .كيف يمكن لجسد هادئ لأسابيع أن ينتفض ليقرع مخاوفنا بتلك السخونة والحرقة . يخرج الطبيب بعد محاولة إنعاش شبه......فاشلة. ليخبرنا أن الدعاء له والرجاء هو السبيل الأخير لمسيرته. و أن الأمر ببساطه... يمكن له أن يستمر لفترة زمنيه معدودة. كنت أشعر داخلي دوما ,انه سيعود وأن الحلم المفزع سينتهي . وانه لن يعاود الكرَّة , والبيت سيستقبل مجددا ستة أفراد لا خمسة .
دخلنا , متجهز هو أيضا لوداعنا , حزين هو أيضا لفراقنا , تمر الساعات حتى قريب منتصف الليل الحالك , ونحن نجلس بجانب رجليه نقبلهما بلهفة غير مصدق , والآيات القرآنية تنساب بسيولة من بين شفاهنا , والأذرع تعانق بعضها , والدموع تنسل بهدوء نسبي كانتظار الكارثة , وانحناء الأجساد لتوديع الجسد الذي لم أره يوما غير قوي . كان رجلا , متطرف في أحلامه ,أراد وحقق .
الساعة الحادية عشر , والوقت حان كي نعود أدراجنا ,الأرجل تعود من تلقاء نفسنا , والنفس تبقى تقبل أرجل الوالد وتطلب منه عدم تكرار الأمر والعودة للبيت سويا . نصل البيت , نرتقب الوقت ,الثانية عشر...الواحدة فالخامسة .وجوال الأخ يدق كأجراس كنيسة يوم الأحد .كان الخبر مفعم بهدوء البكاء الصارخ والدموع اللاذعة . طلب منا أن نعرج للمشفى للرؤية الاخيرة ....بعد الممات .
اب مثابر ...كنت لن أدرك يوما انك متحضر حتى في مماتك .وانك لجأت للوداع البطيء ذات الخاصية التقليدية . كنت وللمرة الأولى منذ اثنا وعشرون يوما غير مكبل بالاجهزة . و كنا منذ ذلك الوقت غير مكبلين بالأمل . يوما لن تندم على ما تعبت يداك من اجله . فخور بأربعتنا في حياتك ومماتك إن شاء الله . رؤيتك ستبقى . كلماتك هي خطوتنا التالية ورضاك عنا هو رجاؤنا.
12.7.2011
الصورة للتوضيح فقط !