ربما لأنني أعشق القصة كلون أدبي أخذ يتراجع أمام سطوة الشعر ، سررتُ بقدوم الكاتبة حوا سكاس ، تنشر قصصها القصيرة في " كل العرب " والمواقع الإلكترونية . اخترت لهذا السياق قصتها " تساؤلات بريئة " باعتبار أن هذه القصة النموذج الوسط في قصصها من حيث المستوى . ولعل الكلمة المناسبة في الحكم على قصصها بالمجمل أن الكاتبة جعلتني أتفاءل بأنها ستصل الى مرحلة الإبداع في هذا الفن الجميل . لكن هذا لا يعني أن قصصها بمعزل عن الملاحظات . وأول ملاحظة في قصتها المذكورة أن الكاتبة لم تبدأ بالتمهيد للحدث الرئيس ( الطلاق ) ، بل انشغلت بالإستماع الى نشرة الأخبار " كنت جالسة أمام التلفاز كعادتي في كل مساء بعد طعام العشاء ، أحتسي كوبا من الشاي مع القرفة ، وأنا أتابع نشرة الأخبار " . هذه البداية شبه دخيلة على النص ، أو هي محاولة لتطويل القصة ؛ ومن شأن البدايات القصصية الإخبارية أن تسد شهوة القارئ ! .
البداية يجب أن تكون جاذبة وملفتة ، كواجهة ( الفترينا ) إن جاز التعبير ، تستوقفنا من النظرة الأولى ، أو نمر دون مبالاة .
والبداية غير الموفقة قد تعكس أثرها السلبي على االنهاية الجيدة . لكنني شخصيا ارتحت الى النهاية الجيدة في هذه القصة ، نهاية مشحونة بالعاطفة والشعور الإنساني . لا شك أن بريق هذه النهاية كان سيتضاعف لو أن الكاتبة تجاوزت ما هو مألوف وفطري في سلوك الأم مع ولديها قولا وإحساسا في الأزمات التي تهدد كيان الأسرة كقضية الطلاق " لم نعد قادرين على العيش معا في بيت واحد ، ولكن نحن الإثنان نحبكِ أنتِ وأخاكِ ، نحبكما الى آخر يوم في حياتنا " .
ان المشكلة التي طرحتها الكاتبة وبالرغم من انها تحدث يوميا ، هي مشكلة اجتماعية هامة ، وهي ملائمة جدا للقالب القصصي . لكن تصوير الكاتبة للحدث لم يبتعد كثيرا عن طريقة الكاميرا اللاقطة ! . علما أن الكاتب الفنان هو من يجعلنا ننظر الى الحدث العادي من زاوية أخرى ، نرى فيه رؤية مختلفة .. ومع ذلك استطاعت الكاتبة حثنا للتعاطف مع الأم المطلقة ومشاركتها بعضا من حزنها ، وهذا يعتبر نجاحا في هذا الجزء من القصة .
يحدث في الرواية وبسبب حجمها وكثافتها أن يضرب الناقد صفحا عن عبارة زائدة أو جملة غير مستقرة في موضعها ، أما في القصة ــ المؤطرة ضمن مساحة قصيرة مختزلة ــ فيختلف الوضع تماما ، فكل كلمة تكون محسوبة ومدروسة ، وأي هفوة لا تغتفر ! . يكمن الخطأ في هذه القصة أن الأم " تعجبت " حين لمست في صوت ابنتها التردد قبل الكلام . لم أجد موضعا للعجب ! لو استبدلت كلمة تعجبت ب اهتمت ، أو أصغت ، أو توقعت مفاجأة ، لما كنا بحاجة لهذه الملاحظة . وكذلك قولها " زحف علينا صمت ثقيل " لو قالت خيم علينا ، لاتخذ اللفظ شكلا أكثر دلالة وجمالية . تعتبر هذه القصة بسيطة جدا بالقياس مع القصص العميقة والقصص المعقدة ، لكنها في الحقيقة لا تخلو من بلاغة ، والبلاغة هنا تتمثل بما يسمّى ( مجاز ) . ولا يخفى أن المجاز قد حظي بعناية كبيرة في البلاغة العربية ، حتى جعله أرسطو قديما عنوان العبقرية والذكاء . وقد ذكر الإمام الشافعي اتساع الكلام عند العرب وانها تضع اللفظ ولا تريد به ظاهره .
ينحصر المجاز في هذه القصة تحديدا في سؤال الإبنه الطفلة مخاطبة امها " أصحيح أن أبي سيتزوج ؟ ! " .
أعتقد أن الكاتبة أرادت بهذا السؤال غير معناه الوضعي مثل : هل ساصبح بلا أب ؟ ألا يحبنا أبي ؟ . أو : علام اختار امرأة أخرى ، أهي أفضل منكِ ؟ ! .
هذا المجاز لا يكتسب صفة القطعية ، بل هو قابل للنمو ، ليس بصداه المؤثر فحسب ، إنما باندياحه الى المدى البعيد ، وعلى ضوء علم النفس الذي يفيد ان أكثر العقد النفسية خطرا على مستقبل الانسان ، هي العقد التي تتكوّن في مرحلة الطفولة .
انتهيتُ الآن من القراءة ، ولا ضير أن أجزاء من القصة قد تبخرت .. لكن حضور الإبنة الطفلة في ذهني ظل قويا وصارخا ..وأن تبقى من القصة ، أي قصة ، اشراقة عصية عن الإمحاء ، فهذا يعني أن الكاتبة أوصلت فكرتها ، ولم تهدر وقتها ووقتنا عبثا .