إنطلقت صفارات سيارة الإسعاف صارخة، عالية، وهي تنعطف وتتّجه نحو مدخل القرية. لم يكن الجو بعد ظهر ذلك اليوم باردا أكثر من العادة، ولم تكن السحب في السماء أكثر سوادا من سحب كانون التي تعبر القرية كل عام. ولكن، فجأة، ودون سابق إنذار، هبّت ريح باردة من الغرب، تضرب أطراف شجرة الكينا العالية القائمة عند نهاية الشارع، وهاجت الى داخل البيت متأوّهة، مستغيثة، عبر النافذة التي فتحتها سمر لتدع هواءً نقيا يدخل رئتيها.
"ماذا يجري؟" ركضت صبحيّة من المطبخ.
"سيارة إسعاف يا ماما." قالت سمر التي جلست قرب النافذة تراقب الشارع الخاوي الذي يكون نائما في العادة، واستيقظ فجأة على صيحات الإسعاف.
"هل هي في قريتنا؟" سألت صبحيّة وقد تسلّل القلق الى صدرها.
"إنها تتّجه نحو مدخل القرية."
"يا ساتر يا رب! ماذا يجري؟ من المريض؟"
قفزت سمر من مكانها وأسرعت الى الشرفة لترى الى أين اتّجهت سيارة الإسعاف، ومَن مِن أهالي القرية يلحق بها بسيارته، أو يسبقها ليدلّها على الطريق. ولكن السيارة اندفعت في طريقها الى داخل القرية بسرعة، كما البرق الذي يومض فجأة في السّماء، كأنّه ينذر بمصيبة قادمة، واختفت بين بيوتها وشوارعها وأشجارها دون أن ترى شيئا يُذكر، ثم خفت صوت صفاراتها بعد برهة، حتى اختفى وتلاشى.
كان أدهم جالسا على أريكته الرمادية المفضّلة في غرفة الجلوس وفي يده فنجان القهوة الذي يرتاح معه بعد عمله كل يوم، وهو يشاهد مباراة كرة القدم، عندما تعالت صرخات ابنه راكضا إليه من فناء البيت حيث كان يلعب: "بابا! بابا! بابا!"
"ماذا بك يا ولد؟ لماذا تصرخ هكذا؟" هتف به أدهم ساخطا من مكانه، متعجّبا في داخله.
"سيارة إسعاف داخلة الى الحارة!"
ترك أدهم فنجان القهوة وخرج مسرعا الى الشّرفة العلوية المطلّة على الشارع الذي يؤدّي الى الحارة. وكانت الحارة في أطراف القرية، وتضمّ بضع بيوت جديدة فقط تبعد قليلا عن بعضها البعض، وتوصل بينها طرق ترابية لم تزفّت بعد، تحتضنها من الخلف حقول واسعة، شاسعة، هادئة في العادة.
رأى أدهم سيارة الإسعاف وهي تتّجه نحو الطريق الترابية المؤدّية الى الحقول.
"ما هذا؟ ما الذي يجري في الحقول؟" طغت عليه الدّهشة.
إختفت السّيارة في داخل الحقول. وبقي أدهم في مكانه متجمّدا، مستغربا، مندهشا وقلقا مما يجري. وفجأة... إنطلقت صيحات هاتفه الجوال من الطاولة التي في غرفة الجلوس، فعاد الى داخل الغرفة بعجل، وقد سرى إليه الرّوع، وأمسك بالهاتف. كانت هذه سمر، زوجته، تتّصل به من بيت أهلها.
"أدهم، هل رأيت سيارة الإسعاف؟"
"نعم، رأيتها. إنها في حارتنا. لقد دخلت الى الحقول."
"ماذا تقول؟! ماذا يجري في الحقول؟"
"لا أدري."
"أوو!! ها هي سيارة إسعاف أخرى تدخل القرية!"
"ماذا؟ سيارة أخرى؟!"
"أخرج يا أدهم وتفحّص ما يجري، ولا تنسَ أن تتّصل بي وتخبرني."
بقي أدهم على الشّرفة قلِقا ومتوجّسا، يراقب الحقول دون أن يرى شيئا حقا، خائفا مما قد يرى إن خرج. ثم لمح سيارة الإسعاف الثانية داخلة الى الحارة، تشقّ طريقها نحو الحقول... ثم اختفت. ورأى بعد ذلك سيارات أخرى لأهالي القرية، ودرّاجات نارية، ودرّاجات كهربائية، كلها تتّجه نحو الحقول... وتختفي. هناك شيء ما يجري في الحقول. ماذا يجري؟ وبعدها... سيارة شرطة!
وأخيرا، هبّ أدهم من مكانه وانطلق من البيت.
الكل يجري نحو الحقول، وصبحيّة لم تترك النافذة منذ رأت سيارة الإسعاف الأولى. وسمر لم تترك التليفون ولا أحدا من أقاربها ومعارفها وأصدقائها إلا وسألت وخبّرت واستفسرت عن سيارة الإسعاف الغريبة العجيبة التي دخلت الى أحشاء القرية ولم تخرج بعد.
"لماذا لا تخرج؟" سألت صبحيّة بقلق بالغ. "لا بد أن هناك شيئا رهيبا قد حصل."
"ربما تكون قد خرجت من المدخل الفوقاني." قالت سمر.
"كنا سمعنا اذن صفاراتها. هاتي التليفون من يدك. دعيني أتّصل بشوقيّة."
إقتربت منها سمر وسلّمتها التليفون.
"آلو، شوقيّة، هل رأيت سيارة الإسعاف خارجة من القرية؟"
"لا، إنها لم تخرج. وأنا أيضا واقفة عند النافذة وأنتظر خروجها، ولكنها لم تخرج بعد. هل عرفت الى أين اتّجهت؟"
"الى الحقول."
"الى الحقول؟! شيء غريب حقا. ماذا يجري؟"
"أستر يا رب!"
عندما دخل حمدي الى الصيدليّة بعد ذلك بعدة دقائق، إستقبله الصيدلاني شلومو بوجهه الرّقيق، البشوش، يسأله عن حاله وعمله، كما في العادة. كان حمدي عائدا للتّو الى القرية من مكان عمله الذي في المدينة المجاورة، وكان مرهقا الى أبعد حد، يعاني وجعا ثقيلا في رأسه وكل جزء من جسده منذ ليلة أمس. أراد أن يشتري دواءً يسكّن آلامه، ويعود الى بيته سريعا ليأكل غداءه، يشرب دواءه ويرتاح في فراشه أخيرا.
وفجأة... إنطلقت صلوات أبو عمر المؤذّن: "الصلاة والسلااااااااااااام عليك..."
دقّ قلبه وانقبض خوفا وقلقا، وتساءل بلا وعي: "يا ساتر يا رب! ماذا يجري؟ من الذي مات؟"
فردّ عليه الصيدلاني شلومو أمام دهشته: "كاسم خوراني..." وأشار بإصبعه الى رقبته كما السّكين!
"ماذا؟؟ كيف؟ ولماذا؟ وأين؟"
"في الحقول."
بعد أن خرج حمدي من الصيدليّة وبيده دواؤه، خطر بباله سؤال حيّره: كيف عرف الصيدلاني شلومو من مات، كيف، وأين قبل أن تنطلق صلوات أبو عمر المؤذّن معلنة الوفاة واسم المتوفي، رغم أنه ليس من أهالي القرية؟! كيف عرف ماذا يجري وهو في داخل جدران صيدليته؟ وعندما اتّجه نحو الحقول ليرى ماذا يجري، بدل أن يرتمي على سريره الذي كان ملتهفا عليه، لم تكن الحقول هادئة كما في العادة. الكل كان هناك يرى ماذا يجري، يتهامسون، يتفسّرون ويتساءلون: لماذا انتحر الرجل؟ ما الذي أصابه؟ كيف ومتى وأين؟؟ وخيّمت رائحة الدم على القرية الوادعة.
كفر كما
18.1.12