هذا الطرح يجب ان يُفهم بعيدا عن منطقي التشاؤم والتفاؤل الوجوديين الغربيين المعروفين القرن الماضي . وكما قلت وكررت في كتابات سابقة ، لا يجوز ان نقرأ الموضوع كأدب أو كفلسفة ، ولا كعقيدة . هذا رغم أسلوب الكلام الذي قد يتخذ - عفوا - صفة أدبية أو فنية أحيانا.. وعلى الرغم من دخول موضوع الكشف والتحقق في المعالجات الأدبية ،وفي الإشارات والمجازيات الدينية ، وفي المسائل الفلسفية لدى مذاهب شتى .. وقد يدخل الموضوع أيضا في اهتمامات أحد فروع علم الاجتماع ،وعلم النفس كما في الباراسيكلوجيا ، أو في ما وصف بما " فوق المُدرَك الحسي" حيث أدخل كل ذلك وما شابهه في إطار الدراسات النظرية .. مع ذلك لا إنكار في جواز التقاء بعض نقاط من ذلكم - بالكشف والتحقق - وتقاطعه مع لمحات أصيلة جوهرية ، على الأقل في التعبير .. عمليا لا يمكن تعريف المصدر الجوهر للكشف والتحقق ، إذ هو تجربة مرتبطة بالكينونة الذاتية الأعمق والأشمل ، وهي عاصية على التعريف والتحديد ، كون الذات خلفية حية لكل أوجه النشاط الإنساني ،وهي خفية على المدركات الذهنية والعاطفية والحسية ، رغم كونها سببا مباشرا لوجود ولقيام كل ذلك. وما كل ذلك سوى ذاتنا ذاتها في صورها وانعكاساتها بصفة غيرية ، كما يعكس النور ذاته على ذاته خلال منشور الرذاذ ، أو عبر زجاج ملون .. ولذلك فإن عمل التحقق ليس ضرب في غيب ميتافيزيقي يأتي من خارج طبيعة الذات ، كما فهم ثنائيو النظر من أتباع المرجعيات الإيمانية الدينية – خصوصا السماوية – رغم انطوائها جميعا على إشارات كشف وتحقيق . لقد ألف المتحققون المستنيرون في كل عصر عن الموضوع بأساليب وفي صيغ ولغات مختلفة ، وكذلك الكثير ممن ليسو منهم ، وكثرت التأويلات والتفسيرات والشروحات والنقاشات والمجادلات والأبحاث في الموضوع وحوله . فنسب الموضوع أحيانا للأساطير والغيبيات ، وللسحر والشعوذات ، وغالبا للدين وللفلسفات والآداب . وكانت المصادفة ولا زالت تحالف بعض الجهلاء من مقتحمي الموضوع بنجاحات معينة في التعبير ، وهم ليسو أهل تجربة وكشف وتحقق ..
ماذا يعني هذا الموضوع والحديث عنه واقتحامه جديا في هذا العصر ، عصر الاستهلاك والجشع ، وتغلب المظاهر والمصالح على كل مُقدس تقريبًا ، عصر البهرجات الهمجية القبيلية التي كادت تنقرظ وتختفي هي ومجتمعاتها القديمة من خارطة التطور المدني، يتزايد فجأة المرتدون إليها من الشباب والبنات ، وبعض الشيوخ من إمعات الثقافة الغربية السطحية ، ليبعثوها في حلة سمجة مبتذلة ، كثقب الأنوف والآذان والألسنة وكل مكان في الجسم لإبراز ما يلمع من زينة، في مساوقة الألوان والقرون والأظلاف والأنياب والأظافر والمخالب الحيوانية .. وهذه (الكعكعة) حفرا ورسما على البشرة ، التي هي -أي البشرة - في الأصل آية تبشير بروز الإنسان وصعوده إنسانا ، وليس لوحا للرسم والتسلية ،أو "إبداعًا " وشعوذة .. والبهرجة الحديثة في كل الأحوال تولد كتعبير عن انسداد الآفاق للتطور الفعلي الجوهري في وجوه اؤلئك ،إثر الانجراف في تيارات التقليد الأعمى ، بعد ان تقطعت بهم سبل المعرفة بحقائق الوجود ، وهم سائمون بلا راع لهم ولا كتاب .. أقول : ان وجود الإنسان، وبعيدا عن منطق الأحداث العادية الآن ،بعيدا عما يجري في العالم القريب والبعيد، من مآس وحروب ومجاعات وصراعات مريرة شتى .. ان الوجود الإنساني عموما هو وجود مأساوي ،خلو من الاستقرار والطمأنينة ، وذلك بمجرد تواجد الإنسان بين تجاذب وتنافر الأضداد في عقله وفي جسمه وفي نفسه ، وسواء بوعي وبغير وعي منه لذلك ،هو يتمزق بينها جميعا ،وهي كثيرة : خطأ وصواب ، علم وجهل ، جوع وشبع، حزن وفرح، شدة ورخاء ، بؤس ونعيم ، راحة وتعب ، برد وحر ، صحة ومرض إلخ .. وهو مع ذلك وسواه، يعيش في خوف دائم إزاء اللحظة الآتية.
بعد هذا هل نُسأل عن بعض أسرار اهتمامنا بموضوع التحرر والكشف والتحقق إلخ
رغم ان الإنسان ومنذ اكتشافه النار حتى اختراعه الأقمار الصناعية حاول دائما إيجاد حلول وتغطيات لجميع حاجياته المادية والنفسية ، فاخترع الأدوات الصناعية ، واخترع العقائد والنظريات في شتى العلوم ، يعالج بها أوجه حاجاته ومعاناته المختلفة ، لكن المعاناة الأساسية إزاء وجوده في الجوهر، ظلت قائمة كما كانت عمومًا عبر العصور ، ذلك ان المعتقدات والعلوم المعروفة تتناول الإنسان مجزأ ، وظاهري ،وكل من تلك الأجزاء يتجاهل الجزء الآخر . ان العلة الأساسية لمعاناتنا ليس عدم تكافؤ الفرص في التطور والتقدم (المادجتماعي )، ولا في كون المرء لم يحقق شخصيته المعنوية بالمستوى الذي يطمح ، ولا في عدم تحقق العدل الاجتماعي والسياسي ، أو في عدم تطبيق المثال الديني والأخلاقي بالتمام، كما لدى هذا النوع المؤمن السطحي والحرفي من الناس . على العكس من ذلك ان الكثير من ذلك يدخل في علة المعاناة والعذاب ،الذي يضلل ، يشتت، يمزق في الإنسان في كل مكان. اننا ببساطة نبذل لما بين الولادة والموت إقتصاديا أكثر بكثير جدا مما نحتاج ومما يُستحق فعلا . بينما لأجل خدمة أهداف معنوية شخصية أنانية ،مستعد الإنسان العادي ان يفعل شتى أنواع الكذب والخداع والسرقة،بصورة يمكن معها الخيار الآخر . والبعض من رؤساء الدول لا ينزل عن "عرشه" وان احترق الكون .. انه الجهل والعبث والمحال يعشش في القلوب والعقول، وما يجري في العالم يعبر عن هذا بوضوح ولا مجال لإخفائه .. أخيرا هل من سبيل للخروج من صراع الأضداد الثنائية التي منها الولادة والموت .. لا فيما بعد .. لا في "الآخرة" ليس في عالم آخر وليس على يد مرجع مُنقذ من خارج الفرد، ودون انتظار حل " علمي" في مستقبل مأمول ، بل (هنا والآن ) .؟