كالهواء أنت لا تحبس نفسك في شيء ..

بقلم : كميل شحادة - الرّامة,
تاريخ النشر 09/03/2012 - 09:08:15 pm

أنت الآن تتحدث إلى نفسك وإلى العالم ، في كل ما تقول وتفعل ، من داخل ظلمة الأمس البعيد القريب ذاتها .. إذ أنت ترجع بصورة لا واعية  أتوماتيكية آلية لما اختزنته واحتقبته وجمعته، من تاريخ وجودك الماضي ومن تاريخ وجود محيطك المتجدد ،عن خوف عن قلق عن رغبة  عن شهوة عن إرادة عن طموح ، لتغيير واقعك الخاص ، أو لتغيير في العالم من حولك كي يتطابق معك .. من داخل هذا العبء الضخم الثقيل الذي وضعته فوق عاتقك الأجيال المتعاقبة . كم معلم وكم شيخ وكم زعيم  وكم  واعظ  ومرشد  وكاهن ونبي  تآمروا عليك .. مزقوا فضاءاتك  شكلوا دروبك  حفروا قبورك  .. أودعوك سجونهم .. أخي الإنسان في كل مكان ، هذا هو جحيمك وهذا هو تاريخك  .. انك تحاول دائما أن تتكيف وتكيف العالم من حولك ، لنفسك ، بناء على ما ورثته  وما عرفته  وما ترغبه وتفضله .. والقول انك تفعل ذلك لنفسك يعني أيضا لعائلتك لأصدقاءك لجيرانك لطائفتك لشعبك لمسؤوليك   لحزبك ، لدينك لمعتقدك ، لخطك الذي تؤمن به  .. أنت تريد وتريد ، لكنك لم تجرب يوما أن تسأل نفسك من أنا حقا ..؟ من أنا  دون كل هؤلاء ودون  كل ذلك ..  ما الذي أعرفه عن نفسي وعن محيطي .. ؟ هل جربت ان تكون كما أنت .. خارج كل ذلك ..؟  هل تعتقد انك بحاجة لتغيِّر فيك شيء حقيقي لتحصل على ما تريد فعلا  ؟ هل تظن انك تستطيع الحصول على ما تريد من تغييرك في العالم ..أو من تمحيض وتحقيق أحلامك ..أحلامك الصغيرة والكبيرة التي تدور في الليل والنهار حول هذا الغرض أو ذاك .. حول هذا الشيء أو ذاك .. حول هذه الفكرة أو تلك الصورة .. الصورة التي ترسمها لنفسك عن نفسك ، ولا تنفك ترسمها على لوح خيالك بخيالك .. على قدر ما تظن ان تلك الصورة تحمل موضوعية ، أو حق وحقيقة ، أو خير عام  يخدم جهتك ، أو يشمل الكل وينال رضى المجتمع ورضى الله .. نعم على قدر هذا "اليقين" .. وأنت مطمئن إلى انك في الطريق المؤدي للجنة .. أو للقمة .. أنت عمليا في الطريق الذي هندسه من أجلك أكبر المهندسين .. أنت في القوالب التي صنعها لك هؤلاء العباقرة ،تقبع  في الثياب التي هم نسجوها  .. طعامك شرابك أفكارك أعصابك أفراحك صهيلك أحزانك  .. كلها هم الذين اخترعوها  ،ابتكروها ،أعدوها  لك بإحكام  كي تكون مثلهم وعلى شاكلتهم ، ضائع .. ضائع  تحتهم أو فوقهم .. نعم أنت ضائع مهمى صممت أذنيك وتعاميت .. مهمى حاولت الإنكار والتجاهل لهذه الحقيقة .. ضائع ضمن القوالب المحكمة بأسمى وأعلى وأعمق درجات المنطق والتسليح .. ضائع وأنت لاه ٍ  داخل مربعاتك  الكبيرة والصغيرة ، الثمينة والرخيصة  ،المزخرفة والمتواضعة ، المقدسة والفاجرة . وهي باستطاعتها - كما يؤكد تاريخ وجودك كله -  ان تخنق حتى خيالك وتمنعه من مغادرتها إلى حقيقة الوجود . . أنت غريب .. غريب عن نفسك وغريب عن كل شيء .. كل ما تريده يفلت منك ، أو على الأقل تعيش الخوف من ضياعه وأنت في ضياعه تقيم ،إذ هو لا محالة ذاهب عنك لتبقى وحدك .
لكنك لا تعرف الوحدة حقا كونك صنيعة الآخرين ، فإنك لا تنفك تعانقهم ويعانقوك في وهم الفكر وفي هواجس الحاجة لهم ، وهم لا ينفكون عن تحضير وتجهيزالأفكار والمعلومات والبدائع  والقبور والسجون الجديدة لك .. هذا الفكر الذي هو الدجال ، الذي يريك الشيء عكس ما هو   .. انه خبز الشيطان ، وحلواه ، التي تلتهمها بنهم ليل نهار . هو أحلام  يقظتك وأحلام نومك .. يوهمك انك مخطيء حين تكون على صواب ويوهمك انك على صواب حين تكون مخطيء .. كالمخدر يضعك في انطباع انه يأخذك في سفرة ممتعة للخارج ،في حين انت تعيش وتحلم بذلك داخل قبر جسدك ، وجسدك معطى " طبيعي" يتحرك بقوانين خاصة وفق طبيعة المادة ، يتحلل يتفكك كقارب من جليد حار  ، لتغيب فجأة في ظلمات الماضي مرة أخرى .. أنت تسجن نفسك في مشروع ، في رغبة ، في قصيدة ،في هوى ، في خيال امرأة ، في واجبات عائلة ، في مجتمع  ووطن ومبدأ إلخ .. تعيش داخل " نستلغية " لشيء فقدته تعرفه ولا تعرفه .. لكنك تجهل أو تنسى انك مثل الهواء لا يصح ولا يسلم ولا يجد ذاته إلا في الفضاء الطلق .. وكالهواء أنت تفسد حين تسجن نفسك في شيء فتفسده معك .. لذلك كن حُرا وانطلق في المجهول .. المجهول العزيز على التشكيل ، وغير القابل للتعريف والتحديد والتقييد ، ستجد نفسك هناك
.

تعليقك على الموضوع
هام جدا ادارة موقع سبيل تحتفظ لنفسها الحق لالغاء التعليق او حذف بعض الكلمات منه في حال كانت المشاركة غير اخلاقية ولا تتماشى مع شروط الاستعمال. نرجو منكم الحفاظ على مستوى مشاركة رفيع.

استفتاء سبيل

ماهو رأيك في تصميم موقع سبيل ألجديد؟
  • ممتاز
  • جيد
  • لا بأس به
  • متوسط
مجموع المصوتين : 2440
//echo 111; ?>