أهدي المقال لروح الشهيد المعلم كمال جنبلاط
أقوم بهذا كمحاولة للكشف عن التجربة العرفانية الوجودية داخل إطار مقروء منطقيا ، مع إعطاء أمثلة من عالمنا الحسي ،تنطوي على المعاني المقصودة في عالمنا الداخلي غير المتشكل ،كوسيلة تعبيرية أخرى تساهم في نقل الرسالة العرفانية للمهتمين .. فكل كلمة ترد هنا يجب ان تدل إلى معنى محدد مباشر قدر المستطاع .
هناك بعض نقاط وتساؤلات من المفيد ذكرها، بل من الضروري في إطار الحديث عن الموضوع . منها مثلا : ما هي أهمية اقتحام هذا الموضوع أصلا ، ناهيك عن اقتحامه هذا العصر وفي هذه الظروف ؟ هل هناك مهتمين به .. على افتراض ، هل يزيد عددهم بسبب هذا الطرح وسواه فيما يتعلق بالموضوع ..؟
من المعروف ان القلائل جدا في كل مجتمع من يهتمون بالموضوع ، والأقل منهم من يتناولونه بجدية حتى يصبح غاية في وجودهم ، وأقل من الأخيرين من يعتبرونه غاية وجودهم .. هذا رغم ان الموضوع يتحدث عن ماهية الإنسان ، عن حقيقته ، عن حريته ، عن سعادته ، عن صميم وجوده وجوهر رغباته وآماله وطموحاته في كل زمان ومكان، ليس كمجرد نظرية بل تجربة حية مباشرة .. من هنا تنبع أهمية الموضوع والخوض فيه .. فلم ولا ولن تجد إنسان لا يطلب أو لا يطمح أو لا يحلم بأن يكون سعيدا حرا جميلا حكيما غنيا ممتلئا مكتفيا .. إلا ان الناس يسعون لذلكم من طرق مختلفة بوسائل مختلفة من أماكن ومواقع ومقامات مختلفة .. متجانسة أحيانا ، متضاربه أحيانا، ومتضادة أحيانا أخرى ، مما يولد الصراع بين الناس حول الهدف نفسه .. ولهذا الهدف يسعى المرء ليصبح متدينا ، ليصبح فنانا ، تاجرا ، مهنيا ، رياضيا ، مثقفا ، متعلما عالما .إلخ ولهذا الهدف نفسه يدمن البعض السفر والرحلات ، والبعض يهيم بكرة القدم ، والبعض الآخر يتعلق بصيد السمك مثلا .. الجميع يطلب الهدف نفسه ألا هو وجودنا الحقيقي .. البعض يجمع لذلك التحف النادرة واللوحات الرائعة والمقتنيات الثمينة .. هناك ما لا يُحصى ولا يُحصر من الرغبات والطموحات والمشاريع والأحلام .. جميعها يطلب الهدف نفسه ، السعادة ،الحرية، الأمن النفسي والجسدي ،الطمأنينة ، المتعة إلخ .
لكن المحالية والعبثية في الطلب ، والتي يؤكدها العقل السوي نفسه ، تتمثل في تحويل هذا المطلب إلى مصدر يأتي بعكسه أحيانا كثيرة ،أو مختلطا بصورة تعسفية مع عناصر نقضه ، أو يأتي ناقصا ، يستدعي استكماله في "الآخرة " كما لدى المتدين المؤمن ، أو يستدعي استكماله في اتخاذ موقف ساخر متهكم من الحياة ، أو لامبال ٍ بشيء بصورة جامدة خاملة سلبية ، كما لدى "الهبيين" وفريق من الانطوائيين ، الذين يستعيضون عن مواجهة الواقع بحكمة المعرفة والتحقق ، بلهو رخيص ومؤذ ، كشرب الكحول وتعاطي المخدرات وإطلاق النكات .. أو بالأكل والشرب حتى التخمة والمرض .. حتى لا نتحدث عن استخدام الجريمة كوسيلة للحصول على المراد .. على خلفية هذه الصورة المختصرة عن الواقع أحاول تقديم المشروع العرفاني – إذا صح- كمسلكية لا تهضم حق الإنسان من العيش الطبيعي المعتدل والسوي ، من مأكل ومشرب وكساء ومأوى ووسائل حياتية،ومن جهة أخرى تحثه للبحث عن نفسه خارج جميع الضلالات الاجتماعية ، وان اقتضى الأمر مسايرتها أحيانا من منطلق حكمة العيش ذاتها تلافيا للتصادمات العبثية مع الآخرين .
تركيبة الأنسان :
"إعرف الثمرة قبل غرس الشجرة " بمعنى وجوب معرفة كياننا في ماهيته وجوهره ، حتى يصح بعد ذلك اختيار الطريق والفكر والرأي والاعتقاد والقيم والسلوك والسعي لغاية وجودنا الجوهرية المتوائمة والمتآلفة وجوهر الكيان .. الكيان البشري الفردي هو وحدة بناء أولى في التركيب الاجتماعي الكلي ، فإذا فسد الأفراد أو ضلوا طريقهم في الحياة انعكست النتيجة على الكل ، فالكل هم الأفراد مجتمعين ، ولا يصدر فعل عن الكل إلا بمقدار المشاركة في الفعل بين الأفراد .. وما ميز مجتمعاتنا الشرقية عموما عبر التاريخ هو هيمنة الطابع الكلي على الوعي الفردي . وحديثا بدأ في بلاد الشرق عموما ،ينتقل الوعي الفردي إلى شخصي خاص مميز في مجتمع القطيع ، بسبب انتشار ثقافة الحريات والديمقراطيات المختلفة ، دون أن يعني هذا ان التوافق الاجتماعي حول فكرة وسلوك ما ، هو دائما سمة تخلف وسلب لدى الفرد لصالح المجموع.. غير اننا الآن بصدد تعريف الكيان الفردي ذاتا كضرورة سابقة على كل اعتبار ( سياسي ، ديني ، إجتماعي ).. ان أي كيان بشري فردي ،مركب من عناصر أساسية معنوية ومادية ، لن أحاول التطرق لهذا تفصيليا بصفة انتلوجية تقليدية ، لن أجمع المعلومات من مختلف المتخصصين ومن مراجعهم لتعريف مختلف جوانب تركيب الإنسان ،لأن الذي يهمني هنا هو الجانب العرفاني الروحاني التجاوزي ، الذي لا يمكن حصره بلغة تعبير ، ولا يمكن الكشف عنه بأوصاف ومعادلات ورموز – سواء علمية ، دينية ،أو أدبية - عليه لا يمكن "التخصص" في فرع علمي متعلق بهذا الجانب كما بالطرق المنهجية المعروفة . هذا الجانب الذي هو جوهر وجود الإنسان كسبب حياته وكماهية وجوهر وجوده، لا زال مجهولا في الأوساط العلمية ،وهو موضع تفكير للفلاسفة في كل العصور ، ومادة خصبة للأدباء والشعراء . كذلك طبعا هو غيب بالنسبة للمؤمن الديني ، لا يجوز التداول فيه من قبل المؤمنين .. وعمليا لايمكن التداول فيه كنقاش وجدل وبحث موضوعي .. وحسبنا هنا تقديم "مفاتيح" عرفانية لطلاب الحقيقة ، كمحاولة لفك شيفرة الوعي المنحجب عن جوهره بنشاطه هو ، كون هذا النشاط إنعكاس غير مباشر للعالم عليه بصفات مختلطة منه ومن العالم .. ان الإنسان يسعى بتلقائية لتحصيل وجود لا ينتهي ، ولا أحد يطلب الموت لذاته حتى أغبى وأسوأ المنتحرين . ان هذا اللامتناهي الذي يطلبه كل منا من حياة ووجود ، صادر أصلا عن جوهر وجودنا القائم فينا بطبيعته الأزلية الأبدية ، لكنه لسبب ما من الأسباب العارضه طبيعيا "حل" في المادة ونتج عن ذلك هوية أخرى ثانوية مركبه من ثنائيات الطبيعة المتضادة ،وانعكست هذه الطبيعة على الوعي المطلق الأحدي وحجبته عن ذاته في تفاعل وفي حراك تلك الثنائيات والازدواجيات المعنوية والحسية المختلفة .. الروح في كياننا الكلي هو الأنا الفردي والجمعي الأصلي لكل أنا ،بغض النظر عن حجمه مستواه ونوعه ، بل ينسحب بأصله وجوهره على جميع الكائنات الحية وغير الحية .. هو الكل في الجزء وفي الكل .. ان ما يسمى عقل ونفس فينا، يمثل الهوية الأولى المكتسبة والحاجبة للروح كوعي مطلق ، بغض الطرف عن المحتوى الأخلاقي والعلمي (للعقل النفس ) ما يشبه اللون الرمادي الصادر عن تمازج اللونين الأبيض والأسود ..الأبيض يقابل الروح ،الأسود يقابل الجسد ، الرمادي يقابل عقل نفس وهي اختزالات عفوية للروح كوعي محض مطلق .. اننا جميعا نعيش في الهوية المكتسبة – "طبيعيا" واجتماعيا – ولا نعيش مباشرة في كينونتا الأصلية الحقيقية ، جميعنا يعيش يفكر يقرر يؤمن يكفر يعلم ويتعلم من داخل الأقنعة الطبيعية والمكتسبة ، من أكبر بروفسور حتى أتفه متعجرف جاهل .
كيف نصبح طلاب للحقيقة، وكيف نحصل على المعرفة والتحقق ؟
المعارف المختلفة تتحصل بالعادة من طريقين : طريق قوى الإدراك الطبيعية التي تولد معنا ولا نتعلمها ،كالحواس الخمس . الطريق الآخر هو الملاحظة العقلية وتجميع المعلومات والمقارنة بينها .. هذا عموما ، طبعا هناك التجارب والاختبارات والقياسات والإحصائيات المتعلقة بالمادة ، أو بالظواهر السلوكية الاجتماعية ، من ثمة البناء عليها أو وفقها .. نهجا للتعلم والتعليم .. فتجميع المعلومات وتكديس الخبرات في المخ – الذي يشبه الحاسوب الألكتروني من هذه الناحية- هو أداة معارفنا جميعا ، هذا النشاط العقلي متطابق ومادة الحواس الخمس، لأنه انعكاس لمضامينها بالعادة، وهي حقل مشترك في الفهم والتعاطي للجميع، على تفاوت بينهم طبعا في درجة الذكاء والاجتهاد . غير ان المعرفة بالروح ،التي هي حقيقة الوجود فينا،هي ليست معلومه وليست فكرة وليست مادة ملموسة ، ولا يمكن ملاحظتها ولا قياسها بالعقل . ولذلك هي غير قابلة للبحث النظري ، ولا للقياس الحسي ، مهمى دقت الأدوات وحساباتها . فما العمل ؟ هو عملية عكسية .. فإذا احتاجت معرفة العالم إلى تجميع معلومات ، فإن معرفة الروح تحتاج إلى إفراغ كل المعلومات التي خزنها الوعي – سواء المتعلقة بالعالم وبسواه من ورائيات – لأن الذين درسوا الروح بقياسات عقلية وحسية ، استنتجوا معرفتهم عن الروح في النطاق العقلي الحسي وبمادته التي لا تخرج عن ان تكون ، فكرة أو تصور عن الروح وليس " مادة" الروح ذاتا ، فهذه تقتضي معرفتها بتجريدها من كل تفكير وتصور، عن طريق تأمل داخلي في الوعي يستهدف السكونية التامة لأي نشاط ذهني فكري ،حتى ينتج عن مسار التأمل ، وبصورة فجائية تلقائية غير متوقعة ، ذلك البعد الذي كان غائبا من الوعي ،الذي هو الروح هنا،البسيط غير المتجزىء، وغير الموجود ذاتا في النطاق العقلي والحسي ، بل كاختزال وتحول سيكلوجي فقط ، كالنور الذي يتغير ويكتسب ألوانا من خلال منشور ،أو زجاج ملون ، دون أن يطرأ عليه تغيير في ذاته ، أو كصورة عصا في الماء تبدو مكسورة أو منحنية بسبب الأمواج الضوئية المتقوسة في الماء ..
ثمار انعكاس التجربة على فئات المجتمع المختلفة :
ينبغي التأكيد أولا هنا ان حصول الكشف عن جوهر الذات لا يعني سوى البدء في سلوك عملية التحقق والتحرر ، وليس هو هدف نهائي لطالب العرفان . " فمشاهدة الملك ( الحقيقة)هي الخطوة الأولى ، بعد ذلك يجب إقامة علاقات ودية " وعشرة صادقة مخلصة " حقيقية ، وذلك بإثارة الرغبة دائما للكشف والتحقق ، من خلال صراع جدلي تقدمي يومي ضد أوهام التماهي بين الذات والأغراض ، فتحصل غبطة التحرر والخلاص بين الحين والآخر ،وذلك ضروري قبل مغادرة الحياة الجسدية ، كضمان لعدم العودة إلى تجسد آخر مظلم . أما أثر عملية الكشف والتحقق على فئات المجتمع المختلفة : المتدينيين ، السياسيين ، العمال والتجار بما في ذلك الموظفين في مختلف المرافق ،العسكريين ، والفنانين على مختلف أصنافهم بما في ذلك الأدباء والشعراء .
رجل الدين :حين يستنير رجل دين من ملة أو من مذهب معين بمعرفة الحقيقة ، تسقط جميع الحواجز من بينه وبين أتباع الملل والمذاهب الأخرى ، لأن الحقيقة لا درجات ولا صفات ولا مفاهيم تقيدها ، فهي نور كاشف وحب غالب ولطافة فائقة . وهنا تسقط الحاجة للدعوة والكرز لدين يفوق " بعمقه وبقداسته ومنطقيته" الديانات الأخرى ،إلى ذلك ينتفي التعصب . رجل السياسة: بينما يتحول رجل السياسة إلى خادم لفكرة التحقق والتحرر ، من خلال إدارة شؤون الدولة في مختلف دوائرها ومرافقها ومؤسساتها. ألعمال : أما العمال والتجار والصناعيين ، يدركون أن الطمع في التملك فوق حاجتهم بمئات وبآلاف وبملايين الأضعاف ،هو علة لشقائهم لا لسعادتهم ، فيقصرون عن ذلك حتى حدود الحاجة لصالح الآخرين – هذا في حالة الأغنياء – وبالنسبة للعاديين ،فإنهم يعلمون باستنارتهم ان العمل لا يقيدهم لأنه يقوم من تلقائه طبيعيا وبقوى الطبيعة التي ، يتحول مقامهم تجاهها لمشاهدة داخلية أكثر منها مشاركة وتماه ٍ مع الجسد . العسكريين : رغم ضرورة انتفاء الحروب بين الدول عند التحقق والكشف ، فإن الجندي في ساحة القتال – إذا اقتضت الضرورة – يقتحم القتال بلا خوف ، ليس بمجرد الإخلاص للوطن ، بل لأنه يعلم كمستنير انه لا يُقتل ولا يَقتل ، لأن ثمة روح واحد قائم وراء جميع النفوس الفردية . وأخيرا أهل الفن والفكر والأدب : يتحولون إلى منشدين مبدعين في نطاق كشف الحقيقة ، التي هي الجمال ذاتا وانعكاسات في آن ، ولا يوجد سوها غاية للإبداع ، فهي لا متناهية الوجود ولا متناهية التمثل والتحول والتجلي ، ان الإبداع بالذات هو في ان يلقي الفنان بنفسه في تيار الإبداع الكوني الإلهي، حتى يصبح جزء لا يتجزأ من عملية وتجلي الإبداع ذاتها .. طبعا ما أقدمه هنا عن التجربة العرفانية ، كطريق حل تاريخي إجتماعي كلي ، يبقى "يتوبيا طوبية " ناقصة كثيرا ،كي لا يظن قاريء اني تجاوزت كل حد في الخيال . بينما كانت هذه التجربة ولا زالت رفيقة وصديقة طلاب الحقيقة ، وهم قائمون في كل زمان ، على قلتهم ،وهذه رسالة للراغبين بالانضمان لركبهم ، والسلام .