رواية الغشوة، والرقص بين حبّات المطر

بقلم: زهر الدين سعد,
تاريخ النشر 25/03/2012 - 01:47:46 pm

إنّها رواية "الغَشْوة" الصادرة في بيروت للفنان الكاتب المسرحي والروائي راضي د. شحادة، وهي عمل روائي ضخم من ثلاثة أجزاء في كتاب واحد قاربت صفحاتها على ال900 صفحة.
     لم أحظ في حياتي حتى الآن بشعور من الدفء والمحبة والثقة، كالتي منَحَني إياها صديقي الفنان راضي شحادة حين جعل عينيّ تشاهدان مولوده (روايته) قبل أنْ يخرج من سرب الحلم الى حياة الواقع. إنّه شرف كبير وثقة أعتزّ بها ما حييت.
    لقد رقصتُ بين حبات المطر، وتعرّفت على فريد وبولس وحنا وحنة وزهدي وكمال ومريم وكنوز وجوهرة. عشت معهم للحظات تمنّيت ألاّ تنتهي، لفرحتي بمثل هؤلاء الأصدقاء. غضبت لغضبهم، فرحت لفرحهم وحزنت لحزنهم. عشت مع فريد المناضل الإنسان القابض على الجمر الذي حاول أنْ يعطي عُصارة فِكره، فقضى في زنزانة لا تتسع لأحلامه. ضحّى وابتعد وأُبعِدَ عن بناته ليعود مريضا فقيرا، رغم التفاؤل الذي حاول بثّه.
    أما النقاشات بين القوى الوطنية، فقد أبدع راضي في تصويرها من خلال الحوارات السّاخنة بين الأدمغة المتصارعة في ساحة الرواية والمستوحاة من ساحة واقعنا الملتهب، وعبّر بصورة عبقرية ومن خلال شخصيات روايته عن حالة التخبط والتشرذم التي نعيشها فيما يسمى "عرب الداخل" او "عرب ال 48" او فلسطين وما تبقى منها.
    يتحدث عن ضياع الهوية لدى البعض، وعن صعوبة العيش مرفوعي الرؤوس في وطن سليب في ظل مصادرة الأرض والذاكرة. يعيدنا راضي لقصص وحكايات فلسطين ليجد القارئ نفسه في رحلة مع الذات والتاريخ، فيبكي أحيانا ويضحك أحيانا.لم يحاول راضي في روايته تصوير من بقي في أرضه في فلسطين كنموذج واحد ونَمطي، بل أحضر بواسطة شخصياته جميع النماذج والشرائح المجتمعيّة، من المناضل حتى العميل، من المثقف حتى الإنسان البسيط، وبلغة جميلة غنيّة ممتعة تمتزج، فيها اللغة الفصحى بالمحكية.
   شاهدتُ الولادات كلها، وغُصت في فلسفة الموت والحياة مع عَسَل حنّة وتوابيت وقبور حنّا. إنها لحظات مميزة عشتها مع هذين الطيِّبَين الجميلين.
    كان للدِّبعي حضور قوي طغى على المنطق. للأسف شخصية سلبيّة عميلة تُدلي بأنصاف الحقائق، فباتَت تبثّ سمومها بخبث، مزيِّفة كل القصص والحكايات التي عاشها شعبنا لكي تبرّر سبب تعاملها بهذه الصورة مع القضايا الوطنية. للأسف كنتُ أتمنى ألاّ تكون شخصية الدِّبعي بين شخصيات وأبطال هذه الرواية، ولكنّ إلغاءه من صفحات الرواية لا يلغي وجوده ووجود أمثاله المزعج والمقيت في واقعنا المعيشي، ممّن يصبّون السّم في الدسم. إنّه يمثّل شريحة حقيقية من أبناء شعبنا ممّن لا نستطيع تجاهلهم، وربما يكون فضحهم بجرأة أفضل من التغاضي عن حقيقة وجودهم.
    وللأسف، فتركيبة الدّبعي الخبيثة والثعلبية والديماغوغيّة كادت توقعني في فخّ منطقِهِ الأعوج من خلال استعماله أسلوب السخرية والكوميديا، وأسلوب الشخص المقتنع مبدئيا وكلّيا بما يقول.
    حَسَدتُ "كمال" على زواجه ممّن يرغب ويحب، وبنَسَبِه المبارك لفريد النظيف الوطني الذي لا يهتم للشائعات ولما سيقوله الآخرون، ويبارك لابنته زواجها من شريك حياتها. هل سيتحقّق في المستقبل مثل هذا الزواج المبارك والطاهر؟ هل سنجد الجرأة الكافية لكي نكسر قيودنا ونوجّه رؤوسنا نحو الشمس ونطير حيث الحرية؟ هل تختفي أسباب فراقنا وتشتّتنا وتقسيمنا الى أفخاذ وبطون؟ هل ننام فنصحو على واقع أنّنا شعب واحد؟ ندفن موتانا في نفس المقبرة ونصلّي عليهم نفس الصلاة وعلى أنغام مقطوعة موسيقية تنعش أرواحنا وتعزّينا، ونزوّجهم في نفس المكان وبنفس الطريقة؟ هل تزول أسباب خلافاتنا وحروبنا الطائفية والعائلية بحيث ننصهر لنكون شعبا جميلا قويا عملاقا؟
    استوقفتني طويلا مقولة "الرقص بين حبات المطر"، وكان للكلمات عزف وإيقاع على أوتار قلبي وأُذني، لأنّ الرقص كما نحب او المشي بين حبات المطر رافقني ورافق أبطال هذه الرواية الرائعة، وكان الراقص الكبير بولس وهو أعظم الراقصين.
    الرقص بين حبات المطر هو واقع الأقلية الفلسطينية الباقية في أرضها، تحارب من أجل البقاء ومن أجل الكرامة ومن أجل لقمة الحلال في ظل واقع مرير يقوده الاحتلال. كيف نكون مواطنين في دولة شرّدت أهلنا وسرقت أرضنا ووطننا؟ كيف نعمل ونتعلم ونطالب بحقوق مدنية ونشارك في الانتخابات ونشاهد قيادة الدولة تحارب أبناء شعبنا؟ كيف يمكن أنْ نرقص بين حبات المطر دون أن نتبلّل؟ كيف يمكن أنْ نسير او نرقص بحذر شديد بين حبات المطر؟
    يقول الراوي في الرواية: "خفت أنْ تعيش شخصياتي وأموت أنا". قد يموت الراوي ولكن المؤلف لن يموت. سنموت وسيعيش المؤلّف في خلوده الإبداعي، وسيُقْسِم جيلٌ جديد ببطله بولس، وسيتحدّث أبناء مريم وكمال لأحفادهم عن الكابوس الذي عاشه أجدادهم، وعن قصص تشريد أهلهم وعن "جبّ السّريس" وعن الدِّبعي وعن المقابر المقسَّمة بين الأموات والمقسِّمة بين الأحياء، وعن تقسيمنا لقبائل وعائلات، وسيضحك أطفالهم غير مصدّقين قصة جدّهم كمال وجدّتهم مريم وسيقولون إنّهم ربما يحلمون.
    أمّا مريم فستبتسم لكمال من عليائها هامسة: "مَن كان يصدّق أنّ حلم الراوي من خلال المؤلّف ونبوءته بدين "اللا- دين" سيتحقّق؟
      أفتخر بأنّ أكون أول من ينضم لهذه الدعوة الجديدة من أجل تحريرنا من قيودنا ومن اعتقاداتنا ومعتقداتنا البائسة.
    إنها الرواية الأولى بعد "أولاد حارتنا" للكاتب نجيب محفوظ التي تستوقفني فأصرخ: يا جبلاوي يا فريد يا بولس يا راضي، أنتم العسل وأنتم الراقصون بين حبات المطر.
    رواية "الغشوة" للفنان راضي شحادة تستحق أنْ تجد مكانا لها بين الروايات العالمية الخالده. إنها سيرة شعب يستحق الحياة.
 لن تكفي الكلمات، فقد استمتعت بكل كلمة قرأتها.       

تعليقك على الموضوع
هام جدا ادارة موقع سبيل تحتفظ لنفسها الحق لالغاء التعليق او حذف بعض الكلمات منه في حال كانت المشاركة غير اخلاقية ولا تتماشى مع شروط الاستعمال. نرجو منكم الحفاظ على مستوى مشاركة رفيع.

استفتاء سبيل

ماهو رأيك في تصميم موقع سبيل ألجديد؟
  • ممتاز
  • جيد
  • لا بأس به
  • متوسط
مجموع المصوتين : 2440
//echo 111; ?>