بسم الله الرحمن الرحيم
على بعد كيلومترات قليلة غربي بحيرة طبريا, وفي منطقة حطين المشرفة على جبال صفد, وعند نهاية وادٍ مغلق، يقع مقام النبي شعيب (عليه الصلاة والسلام). حيث تتعلق قلوب الموحدين وعقولهم وأرواحهم أينما كانوا بهذا المكان المقدس المبارك الطاهر الذي ضم ضريح نبي الله شعيب ( صلوات الله عليه)، الذي تبرك بزيارته الموحدون منذ القدم. فاعتاد بنو معروف منذ سنة 1884 زيارة المقام المقدس في الخامس والعشرين من نيسان من كل سنة من لبنان وسوريا وفلسطين للتبرك وإقامة الشعائر الدينية والتباحث في شؤون الطائفة المعروفية.
وقد ذُكِر المقام المقدس في كتاب سَفَر نامة للرحالة والشاعر الفارسي ناصر خسرو سنة 1047 للميلاد. وقام بتشييده صلاح الدين الأيوبي سنة 1187 ميلاديه بعد معركة حطين. وتابع بناءه وترميمه المرحوم الشيخ أبو سليمان مهنا طريف في أواخر القرن التاسع عشر بعد أن جمع تبرعات من أبناء الطائفة في سوريا ولبنان وفلسطين. وعند الانتهاء من البناء حدد تاريخ الزيارة في الخامس والعشرين من شهر نيسان من كل سنة, وهو جد المرحوم سيدنا الشيخ الطاهر أبي يوسف أمين طريف الذي أشرف على خدمة المقام وتطوير البناء فيه سنوات طويلة.
والنبي شعيب(عليه الصلاة والسلام) هو أحدُ الأنبياء العرب الأربعة الذين هم: هود(ع), صالح(ع), شعيب(ع) ومحمد(صلعم). وقد جاء ذكره في القرآن الكريم في أربع سور: هود, والأعراف, والعنكبوت, والشعراء.
قيل عنه بأنه خطيب الأنبياء, وقد أعطي علماً, وفهماً, وأناةً, وحلماً, وقد كان قليل الكلام دائم الفكر ناحل الجسم.
هو شعيب ابن ضغثون, واسمه في العبرانية يثرو وفي السريانية تابور.
توفي والده ففاق على والده زهداً وعبادةً, وورث منه أغناماً كان يرعاها ويعتاش منها. عاش بين قوم مدين وهي مدينة تقع جنوبي إيلات حوالي 150 كم على الشاطئ الشرقي للبحر الأحمر. وأهلها كانوا تجاراً يشترون الحنطة والشعير يضعونها في السراديب يتربصون بها الغلاء. وعندهم مكيالان وميزانان أحدهما ناقص يكتالون به عندما يبيعون الناس، والآخر وافٍ يكتالون به عندما يشترون لأنفسهم, وسيدنا شعيب (صلوات الله عليه) بينهم لا يعاشرهم ولا يداخلهم وهو معظّم عندهم.
فبينما هو ذات يوم بباب بيته منشغل بعبادة ربه إذ أقبل عليه رجل غريب فحياه وقال له: "يا شعيب أنت رجل صالح وقومك هؤلاء يظلمون الناس."
فقال(ع):"ماذا جرى لك معهم؟"
قال:" اشتريت منهم مئة مكيال بمئة دينار فنقصوا عشرين مكيالا"
فقال له(ع): "ارجع إليهم واسألهم لعلهم غلطوا معك؟".
فقال الرجل: "رجعت اليهم فشتموني وضربوني وقالوا لي هذه سنَّتنا في بلادنا نأخذ الوافي ونعطي الناقص. فأمسك بيده وخرج معه إلى أسواقهم فسألهم عن القصة فلم ينكروها وقالوا له: "يا شعيب ألا تعلم بأن هذه سُنَّتنا في بلادنا نأخذ الوافي ونعطي الناقص؟"
فقال لهم(ع):"بئس السُّنَّة هذه ولكن اتقوا الله عزّ وجل واتركوا هذه السُّنَّة الذميمة واعطوا هذا الرجل حقه". فكذبوه, وسبوه, وجفوه.
فأخذ يدعوهم الى عبادة الله تعالى بألطف المواعظ وألين الأساليب فلم يتعظوا. فقال لهم كما جاء في القرآن الكريم:
{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ وَيَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ وَيَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُواْ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلاَ بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} هود:84-95.
وجاء في سورة اخرى:
{كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ وزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ وَمَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِّنَ السَّمَاء إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}. الشعراء:176-191.
فقيل لما آيس منهم ولم يرجعوا عن عبادة الأصنام وعن الغش في المكيال والميزان، خرج من بينهم برفقة الذين آمنوا به، وأما أهل مدين فجاءهم حر شديد فدخلوا الى السراديب ليتفيؤوا فجاءت غيمة باردة فخرجوا ليتروحوا بظلها فأسقطت عليهم نارا فأحرقت أكبادهم وصاروا صرعى جميعا، وهلكوا هلاك الأبد. لأن من تكبر على الله تعالى بغير حق أورثه الله ذلا وهوانا بحق.
ثم إن النبي شعيب (ع) بقي في أرض مدين حتى جاءه النبي موسى(ع)، فرعى له الأغنام سبع سنوات. وقد جاء ذكره في التوراة بالتبجيل والتعظيم. وهو الذي علّم النبي موسى (ع) كيف ينتخب القيادات فقال له من التوراة: وأنت تنتخب من كل الشعب رجالاً شجعاناً يخافون الله ينطقون بالحق يكرهون الغش والخداع وتجعلهم مسؤولين عن ألف وعن مئة وعن خمسين وعن عشرة. وعندما استقلت الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1776 اجتمع كبراؤها في ولاية ديلا وير ليكتبوا الدستور الأمريكي فأرادوا بأن يفصلوا الدين عن الدولة ولكنهم بحاجة الى المبادئ الدينية فاعتمدوا على هذا الإصحاح من التوراة في وصية النبي شعيب للنبي موسى في كيفية انتخاب القيادات:
"וְאַתָּה תֶחֱזֶה מִכָּל הָעָם אַנְשֵׁי חַיִל יִרְאֵי אֱלֹהִים אַנְשֵׁי אֱמֶת שֹׂנְאֵי בָצַע וְשַׂמְתָּ עֲלֵהֶם שָׂרֵי אֲלָפִים שָׂרֵי מֵאוֹת שָׂרֵי חֲמִשִּׁים וְשָׂרֵי עֲשָׂרֹת". שמות: פרק יח:כא.
وقال النبي موسى للنبي شعيب عندما أتاه بنو إسرائيل في الصحراء كما جاء في التورة: أرجوك لا تتركنا لآنك عرفت محطاتنا في الصحراء وكنت لنا بمثابة العينين:"אל-נא תעזוב אותנו: כי על-כן ידעת, חנותנו במדבר, והיית לנו, לעיניים". במדבר: פרק י: לא.
ثم جاء النبي شعيب (عليه الصلاة والسلام) إلى منطقة حطين وتوفي فيها، ودفن جثمانه الطاهر بها لتصبح من أقدس البقع في الكون يؤمها الموحدون للتبرك والدعاء والتقرب إلى الله تعالى وإقامة النذورات والشعائر الدينية.